كنت أجلس مع مجموعة من الأصدقاء، أحدهم خالد السمكرى. خالد يعتقد يقينا أن «العيال بتوع التحرير خونة ولازم يلموهم ويضربوهم بالنار». سامحونى لو كان كلامه يخلو من اللياقة أو فيه عنف لفظى. خالد أكبر منى قليلا، ولكنه اعتاد أن يتعامل معى بشىء من الجدية باعتبارى على حد تعبيره «متسقف» أى «مثقف».
وقبل أن أدخل معه فى نقاش مطول سألته عدة أسئلة عن احتياجه فى فترات سابقة أن يترك التعليم لأن أباه كان فقيرا، وأنه طالما دفع رشاوى حتى يحصل على حقوقه من الحكومة، وطالما واجه مشاكل من أجل أن يجد سكنا، وأنه يضطر أن يكذب أحيانا على الزبائن كى يكسب منهم أكثر، وأن معظم الزبائن يضطرون لأن يفعلوا مثله فى تعاملاتهم مع الآخرين.
لم يتطلب الأمر كثيرا من الجهد حتى يصف خالد هذه الممارسات بأنها «سرقة ونصب» وصولا إلى كلمة «فساد» التى قالها بنفسه. وهنا بدأنا نناقش أكثر: لماذا هذا الفساد موجود فى حياتنا؟ وكانت الإجابة متصلة بشكل مباشر لأن «الناس نفوسها وحشة» على حد تعبيره، ولم نحتج مجهودا كبيرا لكى يربط هذا كله بأن من يحكمنا أفسدونا لأنه من مصلحتهم أن نكون مثلهم.
إذن، تكرر مع صديقى خالد الكلام عن الفساد كثيرا، إلى أن سألته: «لماذا لم يطلق كبار السن شرارة الثورة، وإنما جاءت الدعوة من الشباب كما أن معظم من استشهد أو أصيب من الشباب؟».
وهنا احتجت أن أستعين بمسرحية «نهر الجنون» لتوفيق الحكيم كى أوضح له فكرتى، حيث ظن أهل المدينة فى المسرحية المذكورة أن طعونا سيصيبهم إن لم يشربوا من النهر، فشربوا جميعا، وكان النهر ملوثا بالفعل، فأصيبوا بالجنون، ما عدا الملك والوزير. ولأن الشعب هو الأغلبية، وجد الملك والوزير نفسيهما فى عزلة عن بقية المجتمع الذى ظن أنهم العقلاء وأن الملك والوزير هما المجنونان. وبعد نقاش طويل بين الملك والوزير اكتشفا أنهما لن يستطيعا أن يصمدا أمام التيار الجارف من «الجنون الغالب» فى مواجهة «العقلانية النادرة».
ماذا يفعلان؟ لقد شربا من نهر الجنون، وأصبح الكل مجنونا.
لم يفهم صديقى خالد معنى كلامى فى البداية إلى أن طلبت منه أن يفكر فى «نهر الفساد» بدلا من «نهر الجنون». لقد شرب كثيرون من نهر الفساد المخلوط بالاستبداد حتى أصبحنا لا نستسيغ الماء إلا إذا كان فاسدا مستبدا. وأصبحنا نعيش فى ثقافة «مستبد، لكن». الحاكم مستبد، لكنه صاحب أول ضربة جوية فتحت باب الحرية. الحاكم فاسد، لكن أهوه شبع بدل ما يحكمنا واحد جعان ويسرقنا من أول وجديد. وهكذا، أصبحنا نقبل الاستبداد وكأنه منطقى، والفساد وكأنه طبيعى، إلى أن ظهر فى حياتنا «العيال بتوع التحرير» الذين لم يشربوا من نهر الفساد والاستبداد بعد، ولم يفعلوا مثلما فعل الملك والوزير بالشرب من «نهر جنون الفساد والاستبداد». صحيح لهم أخطاؤهم، ولابد من تحديدها والتعامل معها على أنها جزء من بشريتهم، فهم ليسوا ملائكة. ولكن ليس من بين أخطائهم أنهم خونة أو عملاء أو مجانين أو فاسدون أو مستبدون. هم فقط مختلفون لأنهم رفضوا أن يشربوا من النهر، ويحكموا على الأمور بمعايير مختلفة.
لقد تعرفنا على أخلاقيات الاستبداد لفترة طويلة، وها نحن نتعلم جميعا أخلاقيات الحرية. وكما شربنا من نهر الفساد والاستبداد حتى تخلقنا بهما، علينا أن نشرب من نهر الحرية والديمقراطية حتى نتخلق بهما. علينا ألا نفقد الأمل، وألا نكف عن المحاولة، وألا نضيع الوقت فى التفاؤل والتشاؤم. كلاهما رفاهية لا نتحملها فى هذه اللحظة من تاريخ بلدنا. لا لتقديس أحد، ولكن لا أرى معنى لأن نشوة «ثورتنا» أجمل ما حدث فى تاريخنا المعاصر. وستمر هذه الفترة الصعبة كما مر غيرها، وسنتعلم كيف نتعايش، كما تعلم أجدادنا.