الفساد فى مصر كان بالقانون وبالورق «المتستف»، والأحمق هو من يَفسَد خروجا على القانون، لأن القانون يحمل من الخُروقات ما يسمح لك أن تفسد من خلاله وباسمه، وإن لم يكن ذلك متاحا، فتحالف معظم قيادات الحزب الحاكم سابقا كان يمكن أن يعدل القانون بما يسمح بالفساد من خلاله، كما حدث فى منع القضاة من الإشراف على الانتخابات حتى يكون الفساد أسهل والتزوير أشمل والاستبداد أعمق. وكله بالقانون.
أما الفساد فى الديمقراطيات فهو فساد استغلال الوظيفة العامة حتى لو لم تكن هناك مخالفة صريحة للقانون، بدليل أنك من الممكن ألا تخالف أى قانون ولكن يمكن منعك من ممارسة بعض صلاحياتك كموظف عام أو محاسبتك بسبب «إعطاء انطباع للآخرين عن استغلال المنصب». أى والله: يمكن أن يحاسب المسئول فى الولايات المتحدة مثلا ليس لأنه استغل منصبه ولكن لأنه أعطى انطباعا، حتى لو كان على غير أساس، أنه استغل منصبه، لأن ذلك يخلق ثقافة تبرر الفساد للآخرين على أساس معلومة كاذبة أن فلانا استغل منصبه لتحقيق مصالح خاصة. ولنطالع ما جاء فى الأمر الرئاسى رقم 11222 لعام 1965 الموقع من الرئيس ليندن جونسون والذى يقضى بأنه «يَحرُم على أى موظف عام أن يتصرف على نحو يؤدى إلى أو يخلق الانطباع بأنه: يستغل المنصب العام لتحقيق مصلحة شخصية أو أنه يعطى أى معاملة تفضيلية لأى منظمة أو شخص، أو أنه يعوق كفاءة العمل الحكومى أو اقتصاد الدولة، أواتخاذ قرارات حكومية خارج الإطار الرسمى للدولة، أو ينال من ثقة المواطنين فى نزاهة جهاز العمل الحكومى». وغير ذلك كثير.
مثلا وزير الإسكان الأسبق، والذى هو الآن قيد السجن، قام بتخصيص أرض لذويه وابنه القاصر (مرة واحدة وفقا للقانون على حد قوله)، وكأن هذا هو المقابل المنطقى لعمله فى وظيفته. والكارثة أن هذا الوزير كان مُكرّما من رئيس الجمهورية ومرضيا عنه على نحو يثير التأمل، لنكتشف أن الرجل يمتلك تسع سيارات فارهة وفيللا وشاليهات بعضها خصصها بنفسه لأسرته من أراضى الشعب الذى كان نائما فى الهم، واقفا فى الطوابير، عاجزا عن الفكر، عازفا عن القراءة، مخدرا بخطاب دينى عابث، وخائفا من عصى الأمن المركزى، فى مقابل تسجيلات تبكى لها العين عن أناس يعيشون حياة لا تليق ببشر فى عشوائيات تنفى الدولة مسئوليتها تجاهها على نمط البئر المعطلة والقصر المشيد اللذين أشار إليهما الحق سبحانه فى وصف فساد قوم هود وصالح وشعيب كمقدمة لهلكتهم فى الباطل.
إذن ما الحل؟
لو عاد الإنسان لقواعد الحكم الرشيد سواء المستنبطة من الشرع الإسلامى أو من إسهامات كبار فلاسفة اليونان أو من قوانين الدول الأكثر تحضرا لوجد تشابها لافتا بين منطق هؤلاء جميعا فى محاربة الفساد واستغلال المنصب العام وتنازع المصالح. خذ مثلا شريعة الإسلام وقوانين الغرب فى هذا الصدد.
فمثلا عن خولة الأنصارية قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن رجالاً يتخوّضون فى مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة، وفى رواية: إن هذا المال (يعنى المال العام بلغتنا) خضرة حلوة، من أصابه بحقه بُورك له فيه، ورب متخوضٍ فيما شاءت نفسه من مال الله ورسوله ليس له يوم القيامة إلا النار.
وفى تطبيق ذلك قال الخليفة عمر بن الخطاب: إنما أنا ومالكم (أى المال العام) كولى اليتيم إن احتجت أخذت منه (بقدر حاجتى)، فإذا أيسرت رددته (أى لم أعد بحاجة له رددت ما كنت أخذته)، وإن استغنيت استعففت (أى لا آخذ منه على الإطلاق ما دمت غنيا). وقال عمر أيضا: إنما مثلنا كمثل قوم سافروا، فجمعوا منهم مالا، وسلموه إلى واحد ينفقه عليهم، فهل يحل لذلك الرجل أن يستأثر عنهم من أموالهم؟
أما منطق الكثير من الوزراء فى العهد الماضى هو أنهم كانوا أغنياء قبل الوزارة والوزارة فرصة لمزيد من المال والمكسب مادام ذلك يسمح به القانون. والكارثة أن القانون من صِنف الوزراء يأتى إما ليخدم مصالح ضيقة للغاية أو يراعى هذه المصالح الضيقة وهو يخدم الصالح العام. ولنعبر المحيط الأطلنطى لنتأمل كيف يطبقون مبادئ مشابهة هناك، فحين قرر أوباما تعيين هيلارى كلينتون وزيرة للخارجية، فقد كان عليها أن تتراجع عن منصبها أو أن تقبل بأن يتم خفض مرتبها لما هو أقل من مرتب كوندوليزا رايس وفقا لمادة دستورية يمكن ترجمتها على أنها «عدم الاستفادة من الموقع الرسمى الذى يشغله المرء» وهى ترجمة رديئة لمادة Clause Emoluments. والقصة ببساطة أن هيلارى كلينتون كانت قد صوتت بالإيجاب كعضوة فى مجلس الشيوخ لقرار رفع مرتب وزير الخارجية إلى نحو 191 ألف دولار فى السنة، ثم أصبحت هيلارى نفسها وزيرة الخارجية فكأنها صوتت لكى تتكسب من منصبها الذى احتلته لاحقا. وعليه فقد قرر الكونجرس خفض مرتبها لما قبل الزيادة احتراما للدستور وإعمالا لمبادئ درء الشبهات ونظافة اليد. ولهذا هى تقبض الآن راتبا سنويا أقل من سابقتها بنحو خمسة آلاف دولار.
أكرر ما قلته نسبة لأفلاطون: «إن من يعزف عن المشاركة فى الحياة السياسية، فسيعاقب بأن يحكم بمن هم دونه ومن لا يراعون مصالحه».
هذه دعوة لسن قانون جديد يعلن على المواطنين راتب كل شخص يشغل منصبا سياسيا بدءا من رئيس الجمهورية حتى منصب الوزير. وحتى لا يتهمنى أحد بأننى أقول ما لا أفعل، فقد أوضحت لأحد الصحفيين، بناء على سؤال البعض، أننى لا أتقاضى أى مقابل مادى من الاستشارات التى أقدمها. وأعلم أن الكثير من الشباب يعمل متطوعا فى مجالات مختلفة دون أن يتقاضى أجرا إحساسا بالواجب تجاه وطن يستحق أن نرد له بعضا مما أعطانا.