وكأنه يتكلم بلسان حالي
يتكلم مافي النفس وتريد أن تبوح به وتصرخ
وحقا إنها ازمة الشرعية
بعد مضى ستة أشهر على إسقاط نظام مبارك، هل يصح أن نقول إن ركوب الثورة بات مقدما على إنجاحها، وإن شرعية تمثيلها أصبحت محل شك كبير؟
(1)
هذا الكلام يحتاج إلى ضبط كى لا يساء فهمه، من ناحية لأن ذلك الذى نتساءل عنه ما كان له أن ينشأ لولا خصوصية وضع ثورة 25 يناير التى صنعتها الجماهير الغفيرة التى لم تكن لها قيادة أو مشروع واضح المعالم، ثم إنها فرضت نفسها وسط فراغ سياسى مخيم، لذلك كان طبيعيا أن تشكل التجمعات والائتلافات فى وقت لاحق وتتسابق لملء ذلك الفراغ، وبسبب التردد والبطء النسبى فى اتخاذ القرارات من جانب المجلس العسكرى، فقد زادت أهمية تلك التجمعات التى تحولت إلى عنصر ضاغط كان له اثره الفعال فى إنجاز بعض الخطوات المهمة التى جاءت ملبية لمطالب الذين خرجوا يوم 25 يناير (تصفية أركان النظام السابق ــ تطهير وزارة الداخلية من قتلة الثوار ــ رعاية أُسر الشهداء ــ علنية محاكمات المسئولين عن الفساد السياسى والمالى.. إلخ) بالتالى فإن من الظلم البيّن الإدعاء بأن التجمعات والائتلافات لم تفعل شيئا، لأنها أدت دورا مهما، إلا أنها لا ينبغى أن توضع كلها فى سلة واحدة، حيث فيها الاصيل والدخيل والبرىء وغير البرىء والحقيقى والوهمى، هذه التمايزات تسوغ لنا أن نتحفظ على تعميم كله «الثوار» على الجميع كى لا يساء استخدامها او ابتذالها، فى هذا الصدد فإننى افرق بين الذين خرجوا إلى الميادين يوم 25 يناير وظلوا صامدين فيها حتى أسقطوا نظام مبارك وأرغموه على التنحى فى ١١ فبراير، وبين المتظاهرين الذين التحقوا بالأولين بعد ذلك، وشاركوهم الغضب لسبب أو آخر، فافترشوا الميدان واعتصموا واعتلوا المنصات وتسابقت عليهم وسائل الإعلام، التى فتن بعضهم بها وتعلقوا ببريقها، وهؤلاء وهؤلاء يختلفون على المنتحلين الذين تقاطروا على الميدان من كل صوب وتراوحت دوافعهم بين البراءة وغير البراءة.
من ناحية أخرى فإننى لا أريد أن أعمم ملاحظاتى على الجميع، وأقر بأن معظم تلك الملاحظات مستقاة من المشهد الراهن فى ميدان التحرير، الذى يستأثر بالأضواء وبالاهتمام الاعلامى والدبلوماسى، ويراه كثيرون رمزا ومرآة للثورة، فى حين اننى ادرك جيدا أن الصورة اكثر جدية ونقاء فى محافظات الدلتا والصعيد، التى هى أبعد عن مظان الغواية والفتنة، وهو ما يدعونى إلى القول إن الصورة فى ميدان التحرير بالقاهرة وحتى فى الإسكندرية، إذا اعتبرت ناطقة باسم ثورة 25 يناير، إلا أنها من بعض الزوايا ليست أفضل ولا أصدق تعبيراً عنها.
(2)
بوسع أى واحد وابن عمه وزوجته وأولاده القصر أن يشكل «ائتلافا» ينسبه إلى الثورة وأن يقدم نفسه بحسبانه «ناشطا»، وأمامه وسيلتان لإشهار الائتلاف، الأولى أن يتعرف على احد مندوبى الصحف أو معد من البرامج الحوارية وما أكثرها، أو أن ينشئ لنفسه موقعا على الإنترنت يبث من خلاله ما يشاء من آراء وبيانات «ثورية». واذا اعتبر نفسه ليبراليا ومدافعا عن الدولة المدنية ومنضما إلى جوقة المهاجمين للإخوان والسلفيين والتيارات الدينية، فإنه سيجد من يحتفى به وينقل مقر إقامته من بيته أو المقهى الذى اعتاد الجلوس عليه، بحيث يصبح زبونا فى استوديوهات التليفزيون ولأن كل شىء صار مباحا فبوسعه أن يكتسب شعبية واسعة إذا زايد على الجميع واستخدم ألفاظا جارحة فى نقده لرئيس الوزراء واحتشم قليلا، ولم يطلب من المشير طنطاوى رئيس المجلس العسكرى سوى الاستقالة، بعدما غمز فى قناة المجلس العسكرى واعتبره جزءا من الثورة المضادة.
ليس فى هذا الكلام أى مبالغة، ذلك انه إذا كان فى الميدان الآن 130 ائتلافا كما ذكر «الناشط» جورج إسحاق للاهرام يوم الخميس الماضى 21/7، فأغلب الظن أن 80٪ من تلك الائتلافات على الاقل قد تشكلت بالطريقة التى ذكرتها، هذا اذا كان لها وجود اصلا.
عند الحد الأدنى، فثمة علامات استفهام كثيرة حول بعض تلك الائتلافات وجهات الاتفاق عليها، وفى حدود معلوماتى فإن شخصا واحدا شكل خمسة ائتلافات بأسماء مختلفة، كلها ثورية، ولست متأكدا مما قيل لى عن أن بعض الاجهزة شكلت ائتلافات أخرى لخدمة أغراضها، ولأن الميدان مفتوح امام الجميع فليس مستغربا أن يحاول كل صاحب مصلحة مشروعة او غير مشروعة، أن يثبت حضورا من خلال ائتلاف يعبر عنه وخيمة ينصبها يقيمها فى قلب الميدان.
الساحة تبدو اكثر انفتاحا عبر الانترنت اذ بوسع أى احد أن ينشئ موقعا وهو قاعد فى بيته، ثم يقول إن عشرة الاف تضامنوا معه ويظل «الثائر» مجهولا، كما أن احدا لا يستطيع أن يتحقق من اعداد اولئك المتضامنين وما إذا كانوا اشخاصا حقيقيين أم وهميين.
ولعل كثيرين يذكرون أن بعض الناشطين اعلنوا عن حملة لجمع 15مليون توقيع لتأييد المطالبة بالدستور أولا، وقصدوا أن يكون الرقم متجاوزا الـ 14مليونا الذين صوتوا لصالح التعديلات الدستورية ولأن التوقيع يفترض أن يتم عبر الانترنت، فإن حامل الكمبيوتر ذكر بعد ساعات انه تلقى 300 ألف توقيع، وفى المساء قيل إن مليون شخص أيدوا المطلب، وفى اليوم التالى أعلن أن عدد الموقعين وصل إلى ثلاثة ملايين، وكانت تلك الاخبار تحتل مكانها على الصفحات الاولى للصحف المنحازة للموقف، ولكن يبدو أن الذين دبروا الحملة ادركوا أن الحيلة «واسعة» بعض الشىء فأوقفوها بعد ايام قليلة.
قصص الانتحال التى من ذلك القبيل كثيرة بينها قصة المذكرتين اللتين قدمتا إلى المجلس العسكرى ومجلس الوزراء وضمتا آلاف التوقيعات التى أيدت فكرة المطالبة بالدستور أولا، ثم تبين أن أغلب التوقيعات لشخص واحد وقلم واحد لم يتغير!
(3)
فى ظل النظام السابق كان يقال إن عشرين شخصا يحتكرون اغلب ثروة البلد وفى النظام الجديد لدينا اضعافهم يحتكرون الحديث باسم الثورة، كأنما كتب علينا أن نظل محلا للاحتكار من جانب فئة من الطامحين، والذى تغير لم يتجاوز اسماء المحتكرين وموضوع الاحتكار، من نماذج ذلك أن ينبرى اكثر من واحد من الطامحين لتشكيل وتمويل تجمع يضم أصدقاءه ومعارفه ومن لف لفه، ومن هؤلاء يشكل مؤتمرا تحت لافتة تحمل اسما كبيرا ورنانا، وهذا التجمع ينتخب الرجل أمينا ويرشحه ــ رئيسا ويباشر ذلك التجمع انشطة متعددة بدعوى انه يمثل الامة، هكذا مرة واحدة.
قرأت بيانا لتجمع من هذا القبيل اصدر بيانا استهله بعبارات تقول: اثناء التحضير لمؤتمر مصر الأول والذى عقد يوم 7 مايو 2011 تحت شعار «الشعب يحمى ثورته» بحضور خمسة آلاف مشارك يمثلون جغرافيا كل مصر وجميع اطيافها السياسية والاجتماعية والثقافية، قدمت مجموعة العمل الوطنية لنهضة مصر الدستورية والقانونية التى تمثل خبرات رفيعة المستوى من الفقهاء الدستوريين وكبار القضاة والمحامين والقانونيين مشروع وثيقة لإعلان مبادئ الدستور المصرى القادم بعد ثورة 25 يناير، سميت الوثيقة واحد، تم طرحها للحوار الوطنى عبر موقع المؤتمر (المجلس الوطنى) لمدة ثلاثة اسابيع، وقد ورد على الموقع آلاف الاستجابات التى تمثل افكارا وآراء قيمة من جموع ابناء الشعب المصرى بجميع اطيافه، وتم ادراج هذه الافكار فى الوثيقة (2) التى عرضت فى الجلسة الاولى لمؤتمر مصر الاول، وشارك فى مناقشتها عشرات المشاركين من كل التيارات.
وقدمت مئات من المقترحات البناءة حول ما ورد فيها، وتمت اضافة العديد من هذه الافكار القيمة والمبادئ المهمة، فكانت الوثيقة (3) التى عرضتها جريدة الشروق ليتواصل الحوار الوطنى حول ما تضمنته من مبادئ وافكار دستورية لرسم معالم شرعيتنا الدستورية القادمة.
هذا النص يجسد فكرة الجهد الخاص الذى يتصدى باسم الأمة لصياغة الحاضر والمستقبل، لكنه يظل مفتقدا للشرعية رغم استخدامه أوصافا كبيرة رنانة. فصاحب المشروع تخير اناسا بذواتهم شكّل منهم ما سماه المجلس الوطنى وهذا المجلس دعا إلى مؤتمر مصر الاول، الذى قيل إن خمسة آلاف شخص شاركوا فيه يمثلون كل أطياف مصر السياسية والاجتماعية والثقافية، وقد قدمت اليهم مجموعة العمل الوطنية المختارة والتى ضمت ارفع خبرات الفقهاء الدستوريين وكبار القضاة والمحامين وهؤلاء رسموا معالم الشرعية الدستورية القادمة لمصر. بعد ذلك التقديم اللغوى الفاخر الذى اريد به اسكاتنا وافحامنا وجدنا أن الشخصيات المحترمة المختارة قدمت لنا وثيقة اغرب ما فيها بندان: الاول يعبث بالمادة الثانية من الدستور ويضعف من الهوية الاسلامية لمصر، حيث يبقى النص على أن الاسلام دين الدولة ومبادئ الشريعة الاسلامية المصدر الرئيسى للتشريع ويضيف اليه عبارة تقول: مع تأكيد هذا المبدأ بالضمانات الدستورية التى تكفل حق غير المسلمين فى الاستناد لمبادئ شرائعهم الخاصة كمصدر لتشريعات أحوالهم الشخصية، وهى إضافة تشكك فى عدالة النص الاول الذى يعد مرجعا ضامنا لحقوق غير المسلمين، ولم يحدث فى اى مرحلة من مراحل التاريخ المصرى أن كان سببا فى تعطيل اى حق من حقوق غير المسلمين، الأمر الذى يشكك فى براءة هدف تلك الإضافة.
البند الثانى يقتبس من الدستور العلمانى التركى الذى تجاوزوه هناك منذ اربعين عاما نصا يقضى بقيام القوات المسلحة وليس المجتمع بحماية الدولة المدنية والنظام الجمهورى الديمقراطى من اى انتهاك، وهى الفكرة التى حولت الجيش هناك إلى صانع للسياسة ودفعته إلى القيام بثلاثة انقلابات عسكرية واحد كل عشر سنوات.
هل يمكن أن يقال إن مواقف من ذلك القبيل تعبر بأمانة عن جميع الاطياف فى مصر، ام انها وجهة نظر تيار علمانى انتحل تمثيل الامة وأراد أن يفرض رأيه على المجتمع من خلال شخصيات لم يخترها ذلك المجتمع.
(4)
ليست لدّى مشكلة مع مثل هذه الوثائق، التى تعبر عن آراء واجتهادات يمكن أن تحترم، اتفقنا معها او اختلفنا، لكن المشكلة تنشأ حين يصر اصحاب تلك الآراء على فرضها علينا بدعوى انها تمثل كل اطياف المجتمع المصرى، إذ يحق لنا حينئذ أن نتساءل عمن ندبهم إلى ذلك وعن المعيار الذى لجأوا اليه فى ادعاء تمثيل المجتمع. ادرى أن القدرات المالية التى يتمتع بها البعض وزعيق الأبواق الإعلامية التى تعبر عنهم وامكانات ثورة الاتصال التى تيسر الوصول إلى دائرة واسعة من البشر، هذه كلها وسائل تثبت الحضور حقا لكنها لا توفر شرعية التعبير عن المجتمع خصوصا فيما يتعلق بنظامه السياسى ووثائق وخرائط مستقبله. وهو ما يسوغ لنا أن نقول إنه بعد ستة أشهر من الثورة فإننا فى مصر لم ننجح فى إقامة اى كيان يستند فى شرعيته على انتخاب الناس واختيارهم الحر ــ والحالة الوحيدة التى عبر الناس عن رأيهم فيها كانت الاستفتاء على التعديلات الدستورية التى لم يكن لها من هدف سوى انها وفرت لنا خريطة طريق لتأسيس المجتمع المدنى الذى يتشدق به الجميع ويهتفون له. ولكن لأن النتيجة لم تكن على هوى البعض فقد تم الطعن فى نتيجة الاستفتاء وجرى تشويه من أيدوه وتسفيه موقفهم.
الآن عرفنا لماذا قاوموا بشدة فكرة البدء بإجراء الانتخابات التشريعية، ولماذا يحاولون الاستباق والانفراد بصياغة الحاضر والمستقبل على النحو الذى يستجيب لأهوائهم وأطروحاتهم، ولماذا قبلوا بإطالة أمد استمرار العسكر فى السلطة وتأخير تسليمها للمدنيين، إلا أن ذلك لا يمنعنا من التأكيد على أن الانتخاب الحر المباشر هو السبيل الوحيد لاضفاء الشرعية على أى كيان سياسى يبغى تمثيل المجتمع أو كل مشروع يراد له أن يصوغ مستقبل النظام الجديد فى مصر.