إذا كان التوافق على العيش المشترك شرطا لقيام المجتمع الواحد واستقراره، فأخشى أن يكون ذلك التوافق قد أصبح مشكوكا فيه بين النخب المصرية على الأقل.
(1)
أضع أكثر من خط تحت كلمة «النخب»، لأننى أزعم أن وشائج الناس العاديين لا تزال أمتن وأعمق من أن تمزقها المشاحنات والفرقعات التى صرنا نشهدها فى مصر خلال الأشهر الأخيرة. وسواء كان ذلك راجعا إلى البعد الحضارى والتاريخ المشترك، وإلى الجغرافيا التى حصرت المصريين فى الوادى الضيق وكدستهم فى الدلتا، فالشاهد أن تلاحم المصريين على اختلاف أطيافهم يظل حقيقة ثابتة ومستقرة، من ثم فإن ما يحدث على السطح من ضجيج أو اشتباك وتراشق أفسد الأجواء وشحن النفوس بالغضب وربما بالبغضاء حقا، لكنه لم يهتك أواصر القاع. على الأقل فذلك ما ألاحظه فى الدوائر التى أتواصل معها.
تلك حالة ليست فريدة فى بابها، آية ذلك أننى قرأت للرحالة العربى ابن جبير (1145 ــ 1217م) ملاحظته التى سجلها إثر تجواله فى عالم زمانه قوله إنه: «من أعجب ما يحدث أن نيران الفتنة تشتعل بين الفئتين، مسلمين ونصارى، وربما يلتقى الجمعان منهم ويقع المصاف بينهم، ورفاق المسلمين والنصارى تختلف بينهم دون اعتراض، واختلاف القوافل من مصر إلى دمشق على بلاد الإفرنج غير منقطع... والاتفاق بينهم على الاعتدال. وأهل الحرب مشتغلون بحربهم، والناس فى عافية، والدنيا لمن غلب».
إذا جاز لى أن استخدم تعبير ابن جبير فإننى أزعم أن أهل مصر «فى عافية» لايزالون. لكن المشكلة تكمن فى «أهل الحرب» الذين يتصدرون المواجهات ويعتلون المنابر والمنصات، ويطلون على المجتمع عبر شاشات التليفزيون. وذلك منطوق يحتاج إلى تحرير.
(2)
أهل الحرب فى مصر الراهنة هم عناصر النخبة التى تشكلت فى ظل أوضاع سياسية غير ديمقراطية فرضت على المجتمع ولم تكن من اختياره. وقد كان انحياز تلك الأوضاع واضحا للتيار العلمانى بمختلف اتجاهاته (القومية والليبرالية واليسارية)، وكانت خصومتها ظاهرة للتيار الإسلامى بفصائله المتعددة. هذا التحيز فتح أبواب التأثير والتمكين للمنتسبين للتيار الأول، بذات القدر الذى أحكم فيه حصار وحجب عناصر التيار الثانى. ولئن اختلت تلك المعادلة فى بعض الأوقات (حين تعرض الشيوعيون للاعتقال فى المرحلة الناصرية مثلا وحين اضطهد بعض المعارضين الليبراليين فى عهدى السادات ومبارك) إلا أن ذلك الخلل ظل عارضا واستثنائيا، ولم يؤثر على جوهر القاعدة التى ظلت حاكمة، خصوصا للسنوات الثلاثين الأخيرة.
لم يكن التيار العلمانى بشقيه الوطنى والتغريبى غريبا على مصر، فقد كان له حضوره فى الساحتين السياسية والثقافية منذ أواخر القرن التاسع عشر وطوال العهد الملكى، لكن تلك المرحلة تميزت بأمرين افتقدتهما مصر بعد الثورة. الأول أن التيار العلمانى وقتذاك لم يكن مخاصما للتيار الإسلامى، وإنما كان يعبر عن الاحترام لهوية مصر الإسلامية، وهو ما أثبتته بوضوح قاطع وثائق المؤتمر المصرى الذى عقد فى سنة 1911، وكان فى مقدمة المشاركين فيه اثنان من رواد العلمانية فى مصر هما عبدالعزيز فهمى «بك». وأحمد لطفى السيد «بك». الأمر الثانى أن الساحة احتملت حضورا معلنا بين التيارين العلمانى والإسلامى، وتعاونا فى بعض القضايا المتعلقة بالمصالح العليا للمجتمع (المطالبة بالجلاء ومقاومة الاحتلال الإنجليزى مثلا).
●●●
هذا الوضع اختلف بعد ثورة يوليو 1952، إذ بسبب الصدام بين قادة الثورة وجماعة الإخوان المسلمين الرمز الأكبر للتيار الإسلامى فرض الحصار على ذلك التيار. وتضاعف ذلك الحصار بعد اغتيال السادات وظهور جماعات التطرف والإرهاب، خصوصا فى بداية الثمانينيات من القرن الماضى. وطوال تلك الفترة كانت الساحة المصرية حكرا على التيار العلمانى بمعتدليه ومتطرفيه. والأخيرون ظلوا محل حفاوة ورعاية من السلطة القائمة، خصوصا الذين التقوا مع سياستها المخاصمة للتيار الإسلامى. وفى ظل ذلك الرضا أو التوافق فتحت الأبواب على مصارعها لرموز ذلك التيار، وجرى تمكينهم من أغلب مواقع التأثير وتشكيل الرأى العام فى مجالى الثقافة والإعلام. وأصبح هؤلاء بمثابة الراعى الرسمى للعقل المصرى، والممثل الشرعى الوحيد له. وهو الوضع الذى اختلف بعد زلزال ثورة 25 يناير، الذى أسقط الوصاية على الشعب وكسر القيود التى كبلته.
(3)
حين تقدمت الأجيال الجديدة من الشباب صفوف ثوار 25 يناير نسى الجميع هوياتهم وانتماءاتهم. وكانت تلك لحظة تاريخية التحم فيها الجميع حول هدف واحد مشترك، لكن ذلك لم يستمر طويلا. إذ سرعان ما حدث الشقاق حين طرحت التعديلات الدستورية، وجاءت نتيجة الاستفتاء عليها مفاجئة للجميع وصادمة للتيار العلمانى. كانت فصائل وأطياف التيار الإسلامى قد استعادت حضورها بعدما خرجت من جُب الإقصاء والحظر، وبرز ذلك الحضور فى صف الداعين إلى تأييد التعديلات، وتصدر العلمانيون والأقباط صف الرافضين لها. وتحدد وزن كل طرف حين صوت 77٪ لصالح التعديلات، ورفضها 22٪ فقط، بعد ذلك انقسمت مصر إلى ثلاثة معسكرات، واحد يضم الإسلاميين، والثانى يضم العلمانيين، والثالث اصطف فيه الأقباط الذين التحقت أعداد منهم إلى جانب العلمانيين.
اكتشف العلمانيون أن أغلبية المصريين لم تستجب لندائهم ولم تتلق شيئا من خطابهم الذى يبثونه منذ نحو أربعين عاما. فاعادوا إنتاج خطاب الإقصاء الذى اعتمدوه طول الوقت، وأضافوا إليه خطاب التخويف والترويع لجذب الواقفين بين المعسكرات الثلاثة. وأطلقوا فى هذه الأجواء فكرة المفاضلة بين الدولة الدينية التى اعتبروها فزاعة الموسم، والدولة المدنية التى وضعوها قناعا لإخفاء، المشروع العلمانى.
●●●
بالتوازى مع ذلك فإنهم دعوا إلى استمرار المجلس العسكرى فى السلطة، بحجة أن إجراء الانتخابات الحرة سوف يأتى بالتيار الإسلامى مستصحبا معه فزاعة الدولة الدينية بالشرور الكامنة فى جعبتها. وذهبوا إلى حد التنديد بالمجتمع وتقريع أغلبيته التى صوتت لصالح التعديلات. فمن قائل إنه لا يحسن الاختيار يعانى من الأمية التى بلغت نسبة 40٪، وقائل إن الواحد ممن قالوا لا بألف واحد من الذين قالوا نعم. وأطلقت فكرة مضحكة طالبت بأن يعتبر صوت المتعلم ضعف صوت الأمى عند الفرز فى الانتخابات. ودعا بعض «عقلاء» العلمانيين إلى النص فى الدستور الجديد على أن يكون الجيش وليس المجتمع حارسا للديمقراطية والشرعية. فى استلهام للتجربة التركية التى تجاوزها النظام هناك منذ أربعين عاما.
هذه الأصداء كشفت عن مفارقات جديرة بالملاحظة فى مقدمتها ما يلى:
< إن النخب العلمانية ظلت متمسكة بموقف الإقصاء الذى تبناه النظام السابق، ومن ثم فإنها اصطفت دون وعى فى الأغلب ضمن «فلول» ذلك النظام على الصعيدين السياسى والثقافى.
< إن تلك النخب تحولت بمضى الوقت إلى أصولية أو سلفية علمانية، متخلفة حتى عن التطور الحاصل فى العلمانية الليبرالية السائدة فى الديمقراطيات الغربية.
< إنها انتقلت تلقائيا إلى صفوف المنددين بالمجتمع والطاعنين فى إدراكه. وبدلا من أن تستمد شرعيتها من التعبير عنه، فإنها آثرت أن تضعه فى قفص الاتهام وتحاكمه، وبدا أن المطلوب أن يتشكل المجتمع وفقا لرغبات تلك النخبة، لا أن تكون هى مرآة له وناطقة باسمه.
< إنهم أصبحوا يبحثون عن آليات غير ديمقراطية لحماية النظام الجديد، فى مسعى غير مباشر لإعادة إنتاج النظام الاستبدادى القديم. وهو ما عبروا عنه بمطالبة الجيش بالبقاء فى السلطة لأمد أطول. وباقتراح تولى الجيش ضمان حماية الديمقراطية فى مصر.
(4)
لا تقف المفارقات عند ذلك الحد. ذلك أن بعض مدارس التيار الإسلامى التى كانت متوجسة ومتحفظة إزاء الآخر، طورت من نفسها خلال الثلاثين سنة الأخيرة، وأصبحت أكثر انفتاحا وحرصا على مد الجسور والتعايش مع ذلك الآخر. وتمثل ذلك فى انخراطها فى صفوف الداعين إلى الديمقراطية والتعددية، التى انحازت إليها دراسات وفتاوى عدة، أبرزها ما صدر عن الدكتور يوسف القرضاوى رئيس الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين. بالمقابل فإن التيار العلمانى الذى بدأ ليبراليا وأعلن تمكسه بالهوية الإسلامية لمصر قبل مائة سنة (كما دلت على ذلك وثائق مؤتمر عام 1911)، فإنه انتهى اقصائيا وسلفيا على النحو الذى نشهده الآن فى مختلف نصوص ومواقف المعبرين عنه.
●●●
فى كتابات المستشار طارق البشرى، وكذلك الدكتور عبدالوهاب المسيرى، إن عقد الثمانينيات فى القرن الماضى شهد بدايات الفرز والفراق بين القوى السياسية فى مصر، بل وفى الساحة الدولية أيضا. ويذكرنا البشرى فى كتابه «نحو تيار أساسى للأمة» بأن الإخوان المسلمين والشيوعيين أيدوا فى انتخابات نقيب المحامين التى جرت عام 1982 شخصية وطنية مستقلة هى الأستاذ عبدالعزيز الشوربجى. وإن القوى الوطنية كانت لها مواقفها الواضحة قبل ذلك إزاء اتفاقيات كامب ديفيد والقضية الفلسطينية ومشكلة بيع هضبة الأهرام ووضع السلطة القضائية والمحكمة الدستورية وقانون الأحزاب وغير ذلك من القضايا الجامعة. غير أنه منذ منتصف الثمانينيات دب الخلاف بين الجميع ولاحت بوادر الفراق حين ثار الجدل حول موضوع سلمان رشدى وقصة أولاد حارتنا وقضية تسليمة نسرين ومجلة إبداع ومشكلة الدكتور نصر حامد أبوزيد. وهذا الخلاف كانت له أصداؤه التى لاتزال حية إلى الآن.
الموقف أكثر تعقيدا وحده فى المرحلة الراهنة، خصوصا بعد تحديد موازين القوى وظهور الاستقطاب الذى سبقت الإشارة إليه بين التيارات الإسلامية فى جانب وبين العلمانيين والأقباط فى الجانب الآخر. وليست المشكلة فى مبدأ الاختلاف، ولكنها فى مداه ومآلاته.
(٥)
فى هذا الصدد فلعلى لا أكون مبالغا إذا قلت إننا بإزاء لحظة فارقة. وان خطاب التعبئة المضادة والتخويف نجح فى إقامة ما يمكن نسميه بأنه «حاجز نفسى» على الأقل بين التيارات الإسلامة فى جانب وبين العلمانيين والأقباط فى الجانب الآخر.
●●●
إذا كنا جادين فى حل الإشكال الخطر، فينبغى أن نتفق أولا على أنه لا مكان للغلاة والمزايدين على طاولة الحل. نتفق ثانيا على إيقاف الحرب الأهلية والإعلامية المعلنة بين الفرقاء لإتاحة الفرصة للحوار على أساس الاحترام المتبادل. ينبغى أن نتفق ثالثا على أن إقصاء أى طرف يفاقم المشكلة ولا يحلها فضلا عن أنه يعيدنا إلى مناخ ما قبل 25 يناير. ينبغى أن نتفق رابعا على أن كل طرف يجب أن يقبل بالآخر كما هو، وألا يطالب بالتنازل عن ثوابته. أخيرا فإنه ليس أمامنا سوى الاحتكام إلى صناديق الانتخاب الحر، وإن نسلم فى ذلك بالقاعدة المعمول بها فى كل الديمقراطيات المحترمة. التى تقرأ مبدأ حكم الأغلبية وحقوق الأقلية حيث لا يستقيم حال ولا يستقر مجتمع تطالب فيه الأغلبية بأن تعيش بشروط الأقلية، حيث يعد ذلك عودة إلى زمن القهر والاستبداد مرة أخرى.
إذا لم تتوافق النخب على ذلك فإنها ترتكب جريمة فى حق الوطن وفى حق أهل مصر، لأنها بذلك تدفع بالبلد إلى مجهول لا تحمد عقباه، شروره لا تعد ولا تحصى، اسألوا الله للجميع الهدية وللوطن السلامة.