حين قال أحد أعضاء مجلس الشعب إن الشرعية فى مصر الآن للميدان وليس لمجلس الشعب، واحتفى البعض بمقولته، فإن الملاحظة باتت تحتاج إلى مناقشة من زاويتين، فى الشكل وفى الموضوع. ذلك أننى حين اعتبرتها طفولة سياسية، أن يرفع أحد الأعضاء الأذان أثناء جلسة مجلس الشعب فى داخل القاعة وليس فى مسجد المجلس، فإن مقولة صاحبنا ينطبق عليها نفس الوصف بدرجة ما. إذ إن نزع الشرعية عن مجلس الشعب واضفاءها على الميدان وحده، كان يستوجب منه أن يغادر القاعة ليعتصم فى إحدى خيام الميدان، كى يلتحم بساحة الشرعية التى ارتآها. اما أن يحارب لكى ينضم إلى البرلمان ويشارك فى أنشطة بعض لجانه، ثم يقول إن الشرعية فى مكان آخر، فذلك يعنى أنه آثر أن يبقى فى المكان الغلط وتخلى راضيا عما اعتبره التجسيد الصحيح للشرعية. لا يبرر ذلك أن يكون بعض الموجودين فى الميدان من أصحابه، وان يكون أغلب أعضاء المجلس من خصومه، وإذا صح ذلك فإننا نكون بصدد موقف لا يخلو من مفارقة، يتجاوز الطفولة السياسية إلى المراهقة السياسية، التى يستسلم فى ظلها المرء لانفعالاته وأهوائه، دون أن يحتكم إلى عقل أو مصلحة عامة.
وإذا ما نظرنا إلى الكلام من زاوية الموضوع، وأخذناه على محمل الجد، فربما كان مناسبا أن نبدأ بتعريف مصطلح «الشرعية». ذلك انها فى حدِّها الأدنى تعنى ما وافق القانون. وفى صورته المثلى أو القصوى فإن المصطلح ينصرف إلى ما وافق القانون وحاز القبول والرضا من الناس.
وإذ أفهم أن المقصود بشرعية الميدان هو الجماهير الموجودة فى ميدان التحرير وغيره من ميادين مصر وشوارعها. فإن ذلك يستدعى السؤال التالى: هل الموجودون فى كتلة واحدة وعلى قلب رجل واحد؟ ــ تجربة الإضراب أو العصيان الذى دُعى إليه يوم 11 فبراير الحالى تجيب عن السؤال بالنفى قطعا. يشهد بذلك الفشل الذى منيت به الدعوة، حتى كان حضور الإضراب فى وسائل الإعلام أقوى من حضوره فى الشارع.
لم يعد الميدان هو ذلك الذى عرفناه فى 25 يناير من العام الماضى. الرؤية فيه واضحة والتلاحم لاشك فيه والصدور اكثر اتساعا والنفوس أكثر صفاء. أما الآن فالأمر اختلف إلى حد كبير. حتى أزعم أنه لم يعد ميدانا يسع الجميع، ولكنه تحول إلى أحياء وشوارع وأزقة وحوارى. بالكاد يتساكن فيه رواده ولا يتشاركون. وقد لا أ بالغ إذا قلت إن المكان يجمع بينهم حقا، ولكن الأحلام فرقتهم.
حين ذهبت النشوة والسكرة وجاءت الفكرة وجدنا أن المطالب اختلفت والأصوات تباينت والأهداف تعددت. هذا إذا كان حديثنا مقصورا على المنتسبين إلى الثورة، لكننا لا نستطيع أن نستبعد أيضا الذين تسربوا إلى الميدان لهدف أو آخر، مشروع أو غير مشروع. وإذا صح ذلك فهل يمكن من الناحية الموضوعية أن نتحدث عن شىء اسمه شرعية الميدان؟ وهل نخطئ إذا قلنا إننا بصدد شرعية عشوائية جمعت أشتاتا من الناس، أغلبهم نسبوا أنفسهم إلى ميدان 25 يناير 2011 الذى لا تربطه بالميدان الحالى فى 2012 سوى علاقة جغرافية وتاريخية؟.
المدهش ان الادعاء بشرعية الميدان يطلق فى وقت انتخب فيه الشعب برلمانا له مواصفات الشرعية فى حدودها القصوى، حتى أزعم أنه المؤسسة الوحيدة التى تتمتع بأعلى درجات الشرعية ليس منذ شهر يناير الماضى فحسب، ولكن منذ قيام ثورة يوليو فى سنة 1952. ولا أجد تفسيرا لمحاولة التقليل من شأنه أو نزع الشرعية عنه سوى أنه جاء على صورة لم تعجب البعض. حتى أصبحنا نقرأ لنفر من المثقفين قولهم إنه لا يمثل الثورة، رغم أن نجوم التليفزيون الذين ظهروا على الشاشات بعد الثورة نجح أغلبهم فى الانتخابات. وحتى إذا صح ادعاء عدم تمثيل الثورة، فإن أحدا لا يستطيع أن يزعم أن البرلمان لا يمثل الشعب فى مصر.
إننا بحاجة إلى ميدان يناير 2011 وبرلمان 2012. إذ فى الأول اجتمعت الأمة، وفى الثانى اجتمع وكلاؤها. وإذا كان الأول قد اختلف فجهد العقلاء ينبغى أن ينصرف إلى استعادة الإجماع فيه، وليس إلى إضعاف الثانى أو نزع الشرعية عنه.
أفهم أن يلجأ البعض إلى دغدغة مشاعر الشارع والمزايدة على الجميع من فوق المنابر الإعلامية التى تفسح المجال واسعا لدعوات الإثارة والبلبلة. لكن تجارب الأشهر التى خلت أثبتت أن الجماهير ما عادت تنخدع بمثل ذلك الضجيج، وإنها أكثر وعيا مما قدر دعاة الإثارة والبلبلة، الذين امتعضوا من اختيارات الناس، ولن أستبعد أن يفكر أحدهم يوما ما فى نزع الشرعية عن الشعب المصرى بأسره!