هل الدكتور جودت الملط، رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات فوق المحاسبة؟، سؤال أتمنى أن يجيب عنه الدكتور عصام شرف، رئيس حكومة الثورة، الذى أتوجه إليه برجاء حار أن يتأنى ويفكر ألف مرة قبل أن يتخذ خطوة كالتى فعلها بالاعتذار للدكتور جودت الملط فى مداخلة تليفونية على الهواء فى برنامج (الحياة اليوم)، بعد أن ظل الدكتور الملط يتحدث بشكل عاطفى ردا على انتقادات أغلبها موضوعى عن أدائه طيلة الاثنى عشر عاما التى قضاها كرئيس لأكبر جهاز لمحاربة الفساد فى مصر.
كل الاحترام والتقدير لتاريخ الدكتور جودت الملط ولكونه مازال يسكن فى شقة بالإيجار، لكن ما علاقة كل ذلك بالسؤال الأبرز الذى وجهه له منتقدوه: إذا كنت قد ظللت تحارب الفساد لمدة اثنى عشر عاما واكتشفت أن ما تقوم به ليس له أى قيمة فلماذا بقيت فى منصبك كل هذه السنوات؟، ولماذا صمتَّ على بقاء تقاريرك الرقابية فى الأدراج لسنوات؟، ولماذا لم تخرج إلى الناس بعد ثلاث سنوات أو ست أو تسع أو عشر أو حتى إحدى عشرة سنة لكى تعلن عليهم استقالتك وتضع كل الحقائق أمامهم؟، ولماذا تستنكف الرد على كل ما يوجه إليك من انتقادات بهدوء وحسم؟
أعترف بأننى كنت فى البداية أظن أن الاحتجاجات التى قام بها بعض أعضاء الجهاز المركزى للمحاسبات تدخل تحت بند الاعتصامات الفئوية التى أصبحت وباء يجب مكافحته على كل مصرى شريف، فقيرا كان أو غنيا، خصوصا بعد تعيين حكومة شرف التى تجاوبت مع المطالب المشروعة لتلك الاحتجاجات وقامت بتفعيل ديوان المظالم التابع للحكومة لكى يتلقى تلك المطالب ويتفاعل معها، وهو ما يلقى علامات استفهام على أى اعتصامات لا تتعاطى إيجابيا مع هذه الخطوة أو تحرص على الاستمرار فى تصعيدات منفلتة، لكننى اكتشفت أن المعارضين للملط فى جهاز المحاسبات شكلوا تجمعا اسمه (رقابيون ضد الفساد) وقاموا بوضع انتقاداتهم على جروب فى الفيس بوك، وعندما قرأتها وجدت أننا بصدد أناس يحبون بلادهم ولا يطالبون بأشياء شخصية بل يتحدثون عن ملاحظات وانتقادات كان يجب على الدكتور عصام شرف أن يقرأها جيدا ويحقق فيها، بدلا من أن يسارع بالانتصار للدكتور الملط على الهواء فيرسل إشارات سلبية ليس إلى هؤلاء الرقابيين الرافضين الفساد، بل لكل من يفكر فى فتح ملفات الفساد فى الجهة التى يعمل بها.
أعلم أن الدكتور شرف سارع إلى اتصاله بسبب حرصه على أن يظل للجهاز المركزى للمحاسبات هيبته ومكانته كجهاز مهم من أجهزة الدولة، وأنه رجل صادق وعاطفى ويتصرف من منطلق حرصه على مصلحة مصر فى هذه الفترة الحرجة التى نعيشها، لكننى أعتقد أنه كان من الأفضل أن يتصل بالدكتور الملط بشكل شخصى لكى يهدئ من ثائرته، ثم يطلب على الفور اللقاء بمعارضيه ويسمع منهم ثم يواجه الدكتور الملط بما سمعه، ويقوم بتقييم الأمر ويتشاور مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ليتخذ قرارا من اثنين: إما رد الاعتبار للدكتور الملط وإثبات أنه حقا قام بما عليه وأن خطأه السياسى ينحصر فى كونه لم يستقل من منصبه احتجاجا على استمرار الفساد، وهو قرار تقديرى يخضع لضمير كل إنسان وقدراته الشخصية على المواجهة، أو إثبات أنه قصّر فى أداء واجبه فعلا وقام - كما يقول معارضوه - بوضع بعض التقارير فى الأدراج وإرسال تقارير أخرى مخففة وهو أمر لو صح يوجب تعرضه للمساءلة فورا.
لا يعيب الدكتور الملط ولا يقلل من شأنه أن يكون عرضة للانتقاد والمحاسبة، ولو ظللنا نرفع لغة العاطفة أمام كل طلب حساب أو تحقيق فعلينا إذن أن نستجيب لكل من يطالب بإقفال ملفات الفساد والقمع بدعوى أن نلتفت لمستقبلنا ونبنى بكره، مع أنه لم يثبت فى تاريخ الإنسانية أن هناك بناءً سليمًا قويًا راسخًا لم يشيّد على «نضافة» ولم يهدم بناته أولا الأساسات الخربة المتراخية لكى «يرموا» أساسات قوية تصمد لنوائب الدهر.
يجب أن نسجل أن الشهادة التى أدلى بها الدكتور جودت الملط فى برنامج (الحياة اليوم) كانت مشابهة لما قاله قبل الثورة بأشهر فى مكالمته الشهيرة مع برنامج (العاشرة مساء)، وهى مكالمة تُحسب فى تاريخه لأنها كانت إعلان براءة له من الكثير من ممارسات عهد مبارك، ومع أنها جاءت متأخرة سنوات، وكان يجب أن تكون مشفوعة باستقالة مسببة كان يمكن أن تغير الكثير فى مصر، إلا أنها تظل محسوبة له لا عليه، وتقديرنا لها يدفعنا لأن نناشد الدكتور جودت أن يرد على الانتقادات التى وجهها له معارضوه، بشكل تفصيلى وليس بشكل عاطفى، فكيف يمكن لمن يحاسب الدولة أن ينأى بنفسه عن المحاسبة؟.
أكثر ما يهمنا فى شهادة الدكتور الملط أنها تثير سؤالا مهما سأله الكثيرون ولم يجب عنه المجلس العسكرى حتى الآن: صحيح أنكم تحاكمون كبار المسؤولين بتهم الفساد المالى والإدارى، وصحيح أن ملف محاكمة قتلة الشهداء تحرك بقوة بعد تولى شرف منصبه بعد أن ظل متراخياً ومتعثراً بشكل غير مفهوم طيلة حكم شفيق ووجدى، لم نفهم يعنى ما هى الصعوبة فى القبض على متهمين بالقتل والتحقيق معهم بشكل عادل؟، كل ذلك رائع، لكن ماذا عن الفساد السياسى الذى يجب أن يحاكم بسببه كل من مبارك ونجله جمال ورجاله فتحى سرور وزكريا عزمى وصفوت الشريف؟ أليس ذلك الفساد السياسى أخطر ألف مرة من الاستيلاء على كام مليون أو كام قطعة أرض؟،
وكيف سيكون الحال لو اكتشفنا أن القضايا المرفوعة بها مشاكل قانونية تضمن تشريكها سواء كان ذلك بقصد أو عن دون قصد؟، هل ستتحمل البلاد أثر ذلك على الرأى العام الملتهب؟، وهل من المقبول أن نحاكِم مدنيًا محاكمة عسكرية لأنه خرق حظر التجول بينما نسكت على من خرق كل القوانين وتحدى أحكام القضاء وأهان التقارير الرقابية والمحاسبية بأن أدار لها ظهره ووضعها فى الأدراج؟، وهل يستحق ناشط سياسى أن يحاكم عسكريا ويتم تعذيبه، لأنه قام بممارسة حقه القانونى فى الاعتصام بينما يسجن الفاسدون والقتلة فى سجون خمسة نجوم ويعاملون معاملة البهوات ويتم منعهم من التصوير ولا يجرؤ أحد على أن يدوس لهم على طرف داخل السجون؟!
بصراحة لا أدرى ماذا يؤخر مثلا محاسبة فتحى سرور بعد شهادة الدكتور الملط فى نفس البرنامج على تجاهل سرور تقاريره طيلة فترة تخليله فى منصب رئيس مجلس الشعب؟، ولا أدرى لماذا تم تجاهل الشهادة الخطيرة التى نشرتها صحيفة الشروق للمستشار محمد حامد الجمل رئيس مجلس الدولة الأسبق يوم الخميس الماضى وذكر فيها معلومات مفزعة حول تطاول مبارك على القضاء وتدخله فى شؤون العدالة وانصياع فتحى سرور لذلك وتعاونه معه؟، ولا أدرى لماذا تم تجاهل قلق الرأى العام بعد ما قاله زكريا عزمى من أنه مازال مكلفا بمتابعة شؤون الرئاسة بتكليف من المشير طنطاوى؟، ولا أدرى لماذا يتم تجاهل التراث العتيد لصفوت الشريف فى الإفساد السياسى والذى ظل يمارسه حتى آخر لحظة، وأحسب أنه يمارسه حتى الآن، طالما لم يظهر على الناس لكى يتطهر ويصارحهم بأخطائه ويطلب منهم العفو والصفح؟
للأسف يخطئ من يظن أن مصر ستتقدم إلى الأمام طالما لم تتم محاسبة مبارك ورجاله بشكل عادل وشفاف وسريع، ويخطئ من يظن أن التفريط فى حق الشعب يمكن أن يصنع مستقبلا آمنا، ويخطئ من ينسى أننا لا نتحدث عن أناس انتهت سلطاتهم وأصبحوا غلابة يستحقون العفو والسماح، بل نتحدث عن «تايكونات» بنت إمبراطوريات مالية وسياسية ولها خدم وحشم وأعيان وأغوات ومازالت قادرة على البطش والإيذاء وإشعال الفتن فى البلاد. نعم، أعلم أن كلمة (التطهير) أصبحت تمتلك سمعة سيئة بسبب استخدامها المتعسف عقب ثورة يوليو حيث استخدمت لضرب القوى التى يمكن أن تشكل خطرا على انفراد العسكر بالحكم، لكننا الآن أمام فرصة تاريخية لإعادة الاعتبار لمعنى التطهير لكى يمارس بشكل مدنى وعادل وحاسم بحق الذين حكموا البلاد فأكثروا فيها الفساد، وليس من العدالة ألا نصب عليهم سوط عذاب.. بالقانون.
تحيا مصر.