المتابع لما ينشر عن التحقيقات التى تجرى مع أركان النظام السابق حول دورهم فى الفساد المالى والتربح من وظائفهم يلاحظ أمرين: الأول أن العقارات تشكل جزءا مهما من ثرواتهم، والثانى أنهم يبررون ذلك بأنهم حصلوا على تلك العقارات بعدما تقدموا بطلبات شأنهم فى ذلك شأن أى مواطن عادى، وسددوا قيمتها بالتقسيط، تماما كما فعل غيرهم. وأرادوا بأقوالهم تلك الإيحاء بأنهم لم يستغلوا وظائفهم، وإنما اتبعوا القواعد والنظم التى يخضع لها كل المواطنين فى بر مصر.
مما له دلالته ومغزاه فى هذا الصدد أن الأغلبية الساحقة فى تلك العقارات موزعة على مختلف المناطق العمرانية الجديدة التى أقامتها الدولة، سواء فى المدن والأحياء الجديدة أو على السواحل والصحارى المطلة على البحرين الأبيض والأحمر، وليس مصادفة بطبيعة الحال أن يتزامن دخولهم إلى عالم الثراء العقارى، ومن ثم التحاقهم بطبقة المليونيرات، مع بدء التحاقهم بالسلطة، وأن تتزايد ملكياتهم العقارية طرديا مع تزايد نفوذهم وارتقائهم فى مدارج السلطة.
لست أفهم المقصود بالمواطن العادى فى هذه الحالة، لأن الوزير أو القيادى فى الحزب أو الموظف الكبير فى الرئاسة حين يتقدم بطلب لشراء قطعة أرض له وأخرى باسم زوجته وثالثة باسم الابن الأول والثانى والابنة الثالثة والرابعة، فإنه يملأ فعلا الاستمارة التى يقدمها كل مواطن عادى، لكنه يعطى أفضل مكان، ويستجاب له فى أسرع وقت، ويتم التسامح معه فى عدد القطع التى تحوزها الأسرة، ويتم التساهل معه فى التقسيط. ويمكّن من بيع واحدة من القطع التى خصصت له لكى يسدد ــ على راحته ــ الأقساط المطلوبة منه.. إلخ.
حسب معلوماتى أن الأراضى الجديدة كانت تعرض أولا على كبار المسئولين ليختار كل واحد منهم ما يروق له، ثم يفتح بعد ذلك باب الشراء للمواطنين العاديين حقا. وكانت النتيجة أنه ما من وزير أو مسئول كبير حصل على قطعة أرض فى موقع غير متميز أو بمساحة عادية. وفى المنتجعات السياحية جميعها فإن الصفوف الأولى المطلة على البحر ظلت من نصيب أكابر النظام، والمسئولون فى الدولة فى المقدمة منهم. ولا أعرف كيف يمكن أن يكون الأمر كذلك، ثم يقول هؤلاء فى التحقيقات إنهم فعلوا ما يفعله أى مواطن عادى.
هذا التمسح فى المواطن العادى، والاختباء وراء تلك الصفة لتحقيق الطموحات والاطماع خلال السنوات الأخيرة، حين كانت عجلة التمهيد للتوريث تتحرك والأفاكون وحملة المباخر يؤدون دورهم التقليدى فى القيام بـ«الواجب». وبأذنى سمعت أكاديميا محترما يقول على شاشة التليفزيون إن الوريث يجب أن يعطى حقوق المواطن العادى، ولا ينبغى أن يحرم من حقه وأن يعاقب لأنه ابن الرئيس.
إلى غير ذلك من الكلام المسكون بالاستعباط والنفاق، ذلك أن هؤلاء أنفسهم كانوا يعرفون جيدا أن الوريث المذكور مخلوق عادى حقا، بمعنى أن له يدين ورجلين وعينين وأذنين وفما ولسانا كأى كائن بشرى آخر، ولكنه فى خرائط الواقع ليس مواطنا عاديا بأى حال. يدل على ذلك موكبه وحاشيته وسلطانه وإجراءات تأمينه التى كانت تمنع الحركة حينما ذهب على الأرض أو فى الجو. وقد تندر المصريون عليه حين قالوا إنه طلب أن يشترى شقة من المحافظة فى أسوان. وحين أبلغ الرئيس بذلك كان رده: لا تحرموه حقوق المواطن العادى. وحين فعلوا ذلك حدثت مفاجأة أخرى. إذ تقدم الوريث بطلب إلى محافظة الإسكندرية لشراء شقة أخرى هناك. وحين رجع المسئولون إلى الرئيس فى الأمر فإنه أسمعهم نفس الرد. وبعد مرور عدة أشهر تقدم بطلب ثالث أراد به أن يوسع على نفسه وأن يصل ما بين الشقتين لكى يصبحا شقة كبيرة واحدة. والمعنى فى المزحة واضح، فهذا «المواطن العادى» أراد أن يستحوذ على مصر كلها فى نهاية المطاف.
الذى يتجاهله أولئك المسئولون الذين يتمسحون الآن فى المواطن العادى، إنه حتى إذا كان ادعاؤهم صحيحا، فإن كل العقود التى أبرموها لشراء الأراضى والقصور من الدولة أثناء وجودهم فى السلطة تصبح باطلة وتشكل خرقا للدستور (الذى كان معمولا به آنذاك). ذلك أن نصوصه الصريحة منعت رئيس الجمهورية والوزراء فى حكومته وأعضاء مجلس الشعب من شراء أو استئجار أى شىء من أموال الدولة (المواد 81 و95 و158).
سألت قانونيا ضليعا عن تفسيره لفتح الباب واسعا لنهب كبار المسئولين للثروة العقارية فى مصر رغم مخالفة ذلك للدستور، فكان رده أنه خلال ثلاثين عاما، لم يكترث الرئيس السابق بالدستور إلا حين أراد أن يشدد من قبضة الأمن على المجتمع، وحين عمل على تمهيد الطريق لتوريث ابنه «المواطن العادى جدا».