الوضع فى سوريا أشبه بسيارة انفلت عيارها فاندفعت هابطة من قمة جبل مرتفع، بما يجعلك تتنبأ بمصيرها وأنت مغمض العينين. كان ذلك ردى على من سألنى: إلى أين سوريا ذاهبة؟ ذلك أنه بعد قصف البيوت بالأسلحة الثقيلة، وقتل أكثر من 1200 مواطن، واضطرار عشرة آلاف سورى وسورية إلى اللجوء إلى تركيا هروبا من الجحيم الذى نصبته قوات الجيش والأجهزة الأمنية، بعد كل ذلك فإن رصيد النظام السورى مع شعبه يكون قد انتهى تماما، وباعدت بين الطرفين بركة من الدم مملوءة بجثث الضحايا.
كنت أحد الذين قدَّروا النظام السورى وحمدوا له موقفه إزاء المقاومة وانحيازه إلى جانب العديد من القضايا القومية، كما كنت على استعداد لغض الطرف عن ممارسات تورط فيها النظام فى لبنان مثلا. لكن ما لم يكن تمريره ممكنا ولا قبوله محتملا أن يمعن النظام فى سحق وترويع الشعب السورى على النحو الذى شهدناه خلال الأسابيع التى خلت. حتى أزعم أن ممارسات السلطة فى دمشق لم تبق للنظام على صديق أو محب، وان كل الدعايات السوداء التى لاحقت النظام السورى طوال السنوات الماضية باتت تتضاءل وتصغر إذا قورنت بالصورة البشعة التى رسمها النظام لنفسه فى الأسابيع الأخيرة.
هذا التحول فى المشاعر يلحظه المرء بقوة فى تركيا، التى كان رئيس وزرائها رجب طيب أردوغان من أقرب المقربين إلى الرئيس السورى بشار الأسد، وكان للمودة الشخصية التى نشأت بين الرجلين مردودها القوى على علاقات البلدين اللذين طورا بنجاح تلك العلاقة على مختلف الأصعدة، السياسية والاقتصادية والثقافية. ولكن الفظائع التى ارتكبت بحق الشعب السورى ألقت بظلالها الكثيفة على تلك العلاقة، وسببت حرجا شديدا للحكومة التركية.
قيل لى فى أنقرة إن رئيس الوزراء التركى لم يكف عن تنبيه صديقه بشار الأسد إلى ضرورة الاستجابة لصوت الشارع ومطالب الجماهير. وسمعت من مصادر موثوقة أن الرئيس السورى ظل يسوف ويماطل وينقل إلى أردوغان معلومات مغلوطة منها مثلا أن فى سوريا 64 ألف إرهابى مسلح وأن هؤلاء يهاجمون الجيش والشرطة، وظل يكرر على مسامعه حكاية «الشبيحة» الذين عاثوا فى البلاد فسادا وترويعا، وكانوا هم الذين تسببوا فى قتل المواطنين وأعداد من رجال الجيش. إلى غير ذلك من الروايات التى يصعب تصديقها، والتى جاءت دالة على أن الرئيس السورى لا يريد أن يتراجع وأنه بات مقتنعا بأن «السحق هو الحل».
فى أنقرة يقولون إن أردوغان ألح فى وقت مبكر على الرئيس الأسد لإلغاء الطوارئ والعفو عن المسجونين وإجراء بعض الإصلاحات السياسية، إلا أن الرئيس السورى تأخر كثيرا فى الاستجابة، فى الوقت الذى واصل فيه انتهاج سياسة القمع والسحق، الأمر الذى أفقد تلك الخطوات مغزاها، وأفقد ثقة المواطنين السوريين فى صدقية التوجه نحو الإصلاح. ومن الواضح أن أردوغان فقد بدوره الأمل فى صديقه الأسد، فانتقد علنا عملية قتل المتظاهرين وأدان وحشية الأجهزة الأمنية.
ما يثير الانتباه فى المشهد السورى أن إسقاط النظام لم يكن مطلبا للمتظاهرين الذين كانت مسيراتهم السلمية التى خرجت فى البداية لا تطالب بأكثر من الإصلاح وإطلاق الحريات العامة، لكن حملات القمع التى اتسمت بالقسوة المفرطة وتعاملت مع الجماهير باستهانة وازدراء شديدين، رفعت من وتيرة الغضب. خصوصا حين أسالت دماء المواطنين العزل بمن فيهم الأطفال. وأدى ذلك تلقائيا إلى رفع سقف المطالب، فتعالت نداءات الغاضبين داعية إلى إسقاط النظام، الذى ثبت أنه صم آذانه عن مطالب الشعب، كما أغمض أعينه عما يجرى فى أرجاء العالم العربى.
هذه الخلفية تسوغ لنا أن نقول
إن الذين راهنوا على قمع الناس وسحقهم، هم الذين حثوا الجماهير ودفعوها دفعا إلى المطالبة بإسقاط النظام. وحين أرادوا إعادة إنتاج مذبحة حماة سنة 1982، فى عهد الأسد الأب، فإنهم لم يدركوا أن الدنيا تغيرت كما أن السوريين أنفسهم تغيروا، بحيث أن ما مر قبل نحو ثلاثين عاما يتعذر تمريره أو السكوت عليه الآن. إن أحدا لا يستطيع أن يلوم العزل والمسالمين الذين غضبوا لكرامتهم، ولكن كل اللوم ينبغى أن يوجه إلى الذين عموا وصمُّوا، وآثروا إذلال الناس وقهرهم، فحولوا دموعهم إلى دم وسخطهم إلى ثورة وعتابهم إلى ثأر لا ينسى.