الأغلبية والأكثرية لفظان مترادفان يدلان على معنى واحد وهو الكثرة في مقابل ما يضادها وهو الأقلية فالأقلية والأكثرية وجهان متضادان، لكن ليس واحداً منهما بمجرده دال على الحق أو الباطل، فليست الأكثرية معياراً للحق كما أن الأقلية ليست ملازمة للباطل والعكس أيضاً صحيح فليست الأكثرية دلالة على الباطل كما أن الأقلية ليست ملازمة للصواب.
لكن في أحيان كثيرة تكون الأغلبية قرينة على الصواب أو على الموقف الذي ينبغي اعتماده، ونظراً لأن الديمقراطية تقوم على أساس جعل الأكثرية معياراً للحقائق ومناطاً للإلزام فقد حصل نفور شديد لدى قطاع عريض من الإسلاميين تجاه هذه اللفظة حتى ربما وصمها البعض بطاغوت الأكثرية أو الأغلبية ووصم من يعتمد هذه اللفظة
ويعمل بما دلت عليه في الفصل بين الأمور على أنه متبع للمذهب الديمقراطي ومروج للباطل بين المسلمين.
واستخدام أهل الباطل للفظ ما في تسويق باطلهم وترويجه في سوق الأفكار لا يحملنا على ترك استعماله إذا كان دالا على الصواب، غاية ما هناك أن يكون لدينا احتراز شديد من أن يتسرب من خلال هذا اللفظ شيء من الباطل الذي يستخدم في ترويجه.
وعندما ننظر للفظ الأغلبية أو الأكثرية نجد أن أهل العلم يستخدمونه في أقوالهم سواء بلفظه أو معناه مع اعتدادهم به وعملهم بمقتضاه وهذا يؤدي بنا للتعامل مع هذا اللفظ من غير حساسية، أو من غير الشعور بانتماء هذا اللفظ إلى مجال معرفي مناقض لما دل عليه دين رب العالمين
هناك من القضايا المقررة شرعاً ما لا يمكن العمل بها في بعض حالاتها إلا مع الاعتداد بقول الأغلبية أو الأكثرية ومن ذلك الشورى التي مدح الله المؤمنين بالقيام بها، كما في قوله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} فإذا تشاور المسلمون في أمر وانقسموا بإزائه إلى فريقين أو كثر فما العمل إذن؟
إذا كان في الأمر نص يجب المصير إليه فلا شك أن الصواب مع الفريق الذي يكون النص في صفه ولو كان الفريق فرداً واحداً ومن ثم فيكون هو الواجب الاتباع، وهذا القول مناظر لتفسير أهل العلم للأمر الوارد بلزوم الجماعة أو السواد الأعظم إذ ليس المقصود من ذلك لزوم العدد الكثير أيا كان موقفه من الصواب، بل المقصود اتباع الحق قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: "الجماعة ما وافق الحق وأن كنت وحدك".
لكن إذا لم يكن في الأمر نص يجب المصير إليه فما العمل إذن؟
لا يمكن أن نكون محققين للشورى بعد إجرائها إلا إذا اعتمدنا الرأي الذي تدل عليه الأغلبية، وهذا أيضا قد يصادفنا في مسألة في غاية الأهمية وهي تولية الخليفة فمن المقرر في فقه السياسة الشرعية أن أهل الحل والعقد هم من يعقد الإمامة للخليفة ومن المقرر أنه لا يشترط في عقدها إجماع أهل الحل والعقد، فإذا لم يتفقوا على شخص واحد بل مال فريق إلى شخص ومال فريق آخر إلى شخص ثاني فالحل في ذلك أن تعقد الخلافة لمن مال إليه أغلبية أهل الحل والعقد
لذا نجد في بعض أقوال أهل العلم أن الخلافة "لا تنعقد إلا بجمهور أهل العقد والحل من كل بلد"، ونحو هذا ما كان من تدبير عمر رضي الله تعالى عنه حينما حصر الخلافة في الستة الذين توفى رسول الله وهو عنهم راض قال كما أخرج ابن سعد في الطبقات: "قال عمر بن الخطاب لأصحاب الشورى: تشاوروا في أمركم فإن كان اثنان واثنان فارجعوا في الشورى. وإن كان أربعة واثنان فخذوا صنف الأكثر".
وهو ما يعني الاعتداد بقول الأغلبية أو الأكثرية، وفي رواية أنه قال: "وإن اجتمع رأي ثلاثة وثلاثة فاتبعوا صنف عبد الرحمن بن عوف واسمعوا وأطيعوا" فحينما لم يكن هناك أقلية أو أكثرية بل تساوى الطرفان رجح الفريق الذي فيه عبد الرحمن بن عوف، وهو الترجيح بمرجح خارجي عندما لا تكون أكثرية وأقلية.
وقد نقل ابن القيم في إعلام الموقعين عن البيهقي قوله فيما اختلف فيه الصحابة: "وإن اختلفوا بلا دلالة نظرنا إلى الأكثر"، أي إذا لم يكن مع المختلفين دليل فيما يذهبون إليه فالتعويل على الرأي الذي معه الأكثر منهم.
بل قد تجاوز التعويل على الأكثرية هذه الأمور حتى عمل بها العلماء في شأن من يؤم بالناس في المساجد الأهلية وهي المساجد التي يبنيها أهل الشوارع والقبائل في شوارعهم وقبائلهم وأحيائهم
قال الماوردي: "وإذا اختلف أهل المسجد في اختيار إمام عمل على قول الأكثرين"، وكذلك في تفسير حديث: من أم قوما وهم له كارهون...الحديث قال ابن قدامة في المغني وغيره: "قال أحمد، - رحمه الله -: إذا كرهه واحد أو اثنان أو ثلاثة فلا بأس، حتى يكرهه أكثر القوم"فلم يعتد أحمد رحمه الله بكراهية الأقلية حتى يكرهه أكثر القوم.
وقد علّق ابن حجر على الحديث الذي يرشد بعدم القدوم على أرض نزل الطاعون بها ولا الفرار من أرض نزل بها واختلاف الصحابة في أمر الطاعون الذي نزل بعمواس
فقال ابن حجر: "وفيه الترجيح بالأكثر عدداً والأكثر تجربة لرجوع عمر لقول مشيخة قريش مع ما انضم إليهم ممن وافق رأيهم من المهاجرين والأنصار فإن مجموع ذلك أكثر من عدد من خالفه من كل من المهاجرين والأنصار ووازن ما عند الذين خالفوا ذلك من مزيد الفضل في العلم والدين ما عند المشيخة من السن والتجارب، فلما تعادلوا من هذه الحيثية رجح بالكثرة" وعندما قال له أبو عبيدة: فرارًا من قدر الله؟ أي ترجع فرارا من قدر الله فقال له عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، قال القسطلاني:"لأدبته لاعتراضه عليّ في مسألة اجتهادية اتفق عليها أكثر الناس من أهل الحلّ والعقد".
واذا انتقلنا إلى سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ففي غزوة أحد على سبيل المثال انقسم المسلمون في الرأي هل ينتظرون المشركين حتى يقدموا المدينة ويقاتلونهم فيها وهذا كان رأي المصطفى صلى الله عليه وسلم ومعه طائفة من المسلمين، والرأي الثاني هو الخروج لملاقاة المشركين خارج المدينة قال ابن كثير: :فأشار جمهورهم بالخروج إليهم، فخرج إليهم"، وهو ما يعني الاعتداد برأي الجمهور والجمهور لفظ مرادف للأغلبية أو الأكثرية.
لكن نلاحظ هنا أمور:
- أن الأغلبية يعمل بها عندما لا يكون هناك ما هو أقوى منها في العمل كوجود الأمير الصالح العالم وفي حالة غياب الأمير كما في اختيار الإمام فتم التعويل على الأغلبية لعدم وجود الأمير الذي يفصل في الأمر، فإذا وجد الأمير فرأيه في مسائل الاجتهاد مقدم على غيره سواء كان الغير أقلية أو أكثرية
قال شارح الطحاوية: "وقد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن ولي الأمر، وإمام الصلاة، والحاكم، وأمير الحرب، وعامل الصدقة: يطاع في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد، بل عليهم طاعته في ذلك، وترك رأيهم لرأيه".
- كما يعمل بها إذا قبل صاحب الصلاحية أن يعمل برأي الأكثرية كما حدث في غزوة أحد حيث ترك الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم رأيه لرأي الجمهور كما قرر ذلك ابن كثير رحمه الله تعالى.
- على أن هناك فرقاً جوهرياً بين الأغلبية في الإسلام والأغلبية في الديمقراطية، فأغلبية الإسلام تعمل تحت غطاء الشريعة فلا تستقل بتقرير الحق أو الواجب، وأكثر ما تستخدم فيه تطبيق أو تنفيذ المقرر شرعاً أو تحقيق المناط أو الترجيح بين الأمور، وأما الأغلبية في الإطار الديمقراطي فهي تتجاوز ذلك حتى تستقل بتقرير الحق والصواب أيا ما كان ما خالفها في ذلك، كما أن الأغلبية في الإسلام أغلبية قد استجمعت المؤهلات التي تؤهلها لما يؤخذ فيه رأيها، بينما الاغلبية في الديمقراطية أغلبية عددية دون النظر إلى المؤهلات التي تؤهل صاحب الرأي في الموضوع الذي يؤخذ الرأي فيه.
وقد يعترض معترض على ما تقرر في الأسطر السالفة بآيات القرآن التي جاء فيها {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} ونحوها، وبالتأمل في مواضع مجيء هذه الآيات يتبين بكل وضوح أنه لا تعارض بين ما تم تقريره أولاً وبين ما جاء في الآيات الكريمات، لأن الآيات إما أنها تذكر ذلك بخصوص أقوام معينين أو بشرائط خاصة أو مقيدة بمجال معرفي محدد، والمقال لا يتسع لإيراد كل تلك الآيات وبيان المراد في كل آية على حدة، ومما يبين أن الآيات ليست على العموم الذي يتبادر لبعض الناس، فلو كانت عامة لشمل ذلك الناس كلهم ولانطبق ذلك على الصحابة رضي الله تعالى عنهم فهل يقول مسلم: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم داخلون في قوله تعالى {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أو قوله {ولكن أكثر الناس لا يشكرون}، ونحو ذلك،ولعل ما تقدم يكون سبباً في تعامل الإسلاميين التعامل الصحيح مع هذا المصطلح.