بقلم: د. حمدي فتوح واليمرت بالبشرية أحوال غابت فيها الثوابت الشرعية، وانعدمت الضوابط الأخلاقية، وانطلقت الشهوات، وضعف منطق العقل، واستأسد منطق الأنياب والعضلات، فازداد الفقير فقرًا، والضعيف ضعفًا، كما ازداد الأغنياء غنىً والأقوياء قوةً، ولم يعد يسمع في الأرض إلا منطق المخلب والناب.
أجد هذا في الأرض بعد أن أصيب دين المسيح بحادثة خطيرة أعجزته عن أن يقدم للأرض منهجًا، ويعلي فيها شريعة، ويحمل الناس على أمر السماء.
ففي سنة 305م حدثت حادثة عظيمة، وهي اعتلاء النصرانية عرش رومية الوثنية، وكان ذلك بجلوس قسطنطين على سرير الأباطرة سنة 305م؛ فانتصرت فيه النصرانية على الوثنية، ونالت فجأة ما لم تكن تحلم به من ملك عريض، ودولة مترامية الأطراف، وكلمة لا تعلوها كلمة، ولما كان قسطنطين إنما توصل إلى الملك على جسر من أشلاء النصارى وأنهار من دمائهم التي أريقت في الذبّ عنه والنصر له، عرف لهم الجميل، وبذل لهم وجهه، ووطّأ لهم أكتافه وقلدهم مفاتيح ملكه.
ولكن انتصر النصارى في ساحة القتال وانهزموا في معترك الأديان، ربحوا ملكًا عظيمًا وخسروا دينًا جليلاً؛ لأن الوثنية الرومية مسخت دين المسيح، ومسخه أهله، وكان أكثر مسخًا له وتحريفًا هو قسطنطين الكبير حامي ذمار النصرانية ورافع لوائها(1).
يقول "دل ديوراتت" في كتابه قصة الحضارة- المجلد السابع:
"لما أن فتحت المسيحية روما، انتقل إلى الدين الجديد أبناء الدين الوثني القديم، فانتقل إليه لقب الحبر الأعظم Pontifex Meyimus وعبادة الأم العظمى، وعدد لا يحصى من الأرباب التي بثت الراحة والطمأنينة في النفوس، والإحساس بوجود كائنات في كلِّ مكان لا تدركها الحواس.. نقول إن هذه كلها انتقلت إلى المسيحية كما ينتقل دم الأم إلى ولدها، وأسرت رومية الأسيرة فاتحها"(2).
والذي جاء منقذًا، فإذا به يتحول غريقًا، وخاب أمل أهل الأرض في النصرانية، التي تخلت عن رسالتها وتنازلت عن ثوابتها في توحيد الله ورضيت بالوثنية بديلاً، وتحول رجال الكنيسة إلى رموز معزولة عن الحياة بعد أن شاعت بينهم المقولة المعروفة: "إعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"، وظهر جليًّا بأن قيصر هو المسيطر على كل شيء، وأن الله عند الوثنية لم يعد له أدنى سلطان على حياة الناس، وهكذا تحولت الدولة الرومية إلى قوة وثنية جبارة، وزاد خطرها عندما ملكت زمام الأرض بانتصارها على الدولة الفارسية الوثنية المجوسية التي كانت تشكل نوعًا من التوازن بين القوى.
ولم تكن فارس بعبادتها للنار أسعد حظًّا، بل من وثنية الروم كانت أشقى وأنكى، فالنار لا توحي إلى عبادها شريعة، ولا ترسل رسولاً، ولا تعاقب العصاة والمجرمين، وبهذا ترك الناس لأهوائهم شأن المشركين في كلِّ زمان ومكان، وهكذا حُرمت الأمة الفارسية دينًا عميقًا جامعًا يرى النفس ويهذب الخلق ويقمع الشهوات ويحفز على فعل الخيرات، ويكون دستورًا للأمة ونظامًا للحياة.
وظهر واضحًا أن البشرية فقدت ربانها، وغاب عنها النور الذي يهدي، والحادي الذي يرشد إلى الطريق، وأصبحت البشرية تنشد ربانها وتنتظر منقذها، إلى أن أذن الله للأرض بالسعادة، فبعث إليها محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ فكانت بعثته فتحًا للأرض كله، وإنقاذًا للبشرية بأسرها ورحمة للعالمين
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (الأنبياء: 107).
يقول د. بيرون في المؤتمر الدولي الخامس للعلوم التاريخية الذي عقد بمدينة أوسلو في أغسطس سنة 1929م:
"إن ظهور الإسلام كان خاتمة العصور القديمة، وبداية إيقاظ الإنسانية في أول عصورها المتوسطة؛ حيث بدأت أوروبا الغربية مدنية جديدة وحياة جديدة يجب معها اعتبار هذا الحادث العظيم هو بداية عصر جديد".
ويقول الأستاذ أبو الحسن الندوي مصورًا حالة المجتمع البشري عند بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعث محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم والعالم بناء أصيب بزلزال شديد هزه هزًّا عنيفًا؛ فإذا كل شيء فيه في غير محله، نظر إلى العالم بعين الأنبياء، فرأى إنسانًا قد هانت عليه إنسانيته، رآه يسجد للحجر والشجر، وكل ما لا يملك لنفسه النفع والضرر، رأى معاقرة الخمر إلى حدِّ الإدمان، والخلاعة والفجور إلى حدِّ الاستهتار، وتعاطي الربا إلى حدِّ اغتصاب واستلاب الأموال، ورأى الطمع وشهوة المال إلى حدِّ الجشع والنهامة، ورأى القسوة والظلم إلى حدِّ وأد البنات وقتل الأولاد.
رأى ملوكًا اتخذوا بلاد الله دولاً، وعباد الله خولاً، ورأى أحبارًا ورهبانًا أصبحوا أربابًا من دون الله، يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله".
"رأى المواهب البشرية ضائعة أو زائفة لم ينتفع بها ولم توجه التوجيه الصحيح، فعادت وبالاً على أصحابها وعلى الإنسانية، رأى الشجاعة تحولت همجية وفتكًا، والجود تبذيرًا وإسرافًا، والأنفة حمية جاهلية، والذكاء مكر وخديعة، والعقل وسيلة لابتكار الجنايات والتفنن في الشهوات".
ولأنه كان رسولاً نبيًّا ولم يكن مصلحًا اجتماعيًّا أو حاكمًا سياسيًّا؛ فقد هدى بإذن ربه إلى مفتاح قفل الطبيعة البشرية، فلم يشأ أن يعلنها دعوة سياسية لا قومية عربية؛ لأنه لم يبعث لينسخ باطلاً بباطل، ويبدل عدوانًا بعدوان فيخرج الناس من حكم الفرس والرومان إلى حكم عدنان وقحطان، وإنما أرسل إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، ليهديهم بإذن ربهم إلى صراط مستقيم.
قد علم صلوات الله وسلامه عليه أن القلب هو سيد الجوارح، وأدرك بهداية الله له أن هداية الإنسانية تبدأ من قلبه، فقال صلى الله عليه وسلم:
"أَلا وَإِنَّ فِي الْإِنْسَانِ مُضْغَةً إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ" والقلب المقصود هنا هو باطن الإنسان وكيانه الروحي، هو وجدانه وعقله ومشاعره وإحساسه، ولهذا فقد بدأ معهم بالقرآن المكي يرقق به مشاعرهم ويحيي به ضمائرهم، ويهز به كيانهم، ويعمق به يقينهم وإيمانهم.
وكانت البداية في بيت النبوة؛ حيث تلقَّى الحبيب صلى الله عليه وسلم أمر الله له بالقراءة إيذانًا باتصال السماء بالأرض، وبداية لحمل نور الله إلى الناس
قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (سورة المائدة: 15، 16).
ونزلت آيات الله تترى، واستيقظت القلوب والأرواح على مشاهد القيامة ومصارع المكذبين وجزاء المؤمنين الموحدين، فكانت للمؤمنين بشرى وللكافرين إنذارًا وتحذيرًا.
إن أعظم ما يحرص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته هو استيعاب قلوب من يدعوهم، وأن يطمئن إلى صحة هذه القلوب ويقظتها، وأنها مستعدة لأن تنفعل لسماع القرآن انفعالاً صادقًا عميقًا، ولم يعجله عن هذا الهدف شيء، مهما بدا هذا الشيء عظيمًا وخطيرًا.
فرباهم على قيام الليل وقراءة القرآن وتذوق معانيه، والتعرض لنفحاته ولفحاته، وتبشيره وإنذاره، وبين الخوف والرجاء، والانشراح والبكاء، ومشاهد الجنة ومشاهد النار، عاشت قلوب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنها ترى القيامة رأي العين، لقد كانوا جميعًا مثل قلب حارثة- الذي سأله نبيه وصفيه-:
" كيف أصبحت يا حارثة؟"، فقال حارثة: أصبحت مؤمنًا بالله حقًا، قال: "يا حارثة انظر ما تقول، وإن لكل قول حقيقة، فما هي حقيقة إيمانك؟"، فيقول حارثة: عزفت نفسي عند الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون، وإلى أهل النار يتضاغون فيها.
ويُسَرُّ النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى من ثمرة تربيته المباركة، فيقول مؤيدًا: "يا حارثة عرفت فالزم".
إنه اليقين الذي جعل الجنة تعيش في ضمائرهم، وجعل صورة جهنم لا تغيب عن خواطرهم، وهذا اليقين هو الذي جعل الرجل منهم ينفر لملاقاة أعداء الله، ويجد لذته وسعادته في شدة اللأواء، وعظم البلاء، وإذا حيل بينه وبين ساحة الجهاد بحائل من فقر أو عرض أو مرض؛
تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ (التوبة: 92).
إنه اليقين الذي جعل رجلاً مثل عمير بن الحمام يستطول الحياة حتى يسيغ تمرات في فمه ويقول عندما بشره الرسول بالجنة إن قتل مقبلاً غير مدبر: إن حياة حتى أسيغها لطويلة، ثم اندفع يقاتل أعداء الله حتى قتل.
وهو اليقين الذي جعل المرأة تقول حين بلغها نبأ قتل زوجها وأولادها وأخيها، كل خطب دون رسول الله يهون.
وهو اليقين الذي جعل صهيبًا ينزل عن ماله وبيته وأهله ليخلص بنفسه مهاجرًا إلى الله.
تلك كانت حياة الأرض عند بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه كانت بدايته، دين يتعامل مع الفطرة السوية مقدرًا ضعفها ومعترفًا بقصورها وحاجتها إلى التهذيب والتأديب، مرتقيًا بها- من حيث هي- إلى مدارج الجمال والكمال.
يقول د. روبرت بير جوزيف، أستاذ الفلسفة بالجامعات الفرنسية الذي ألف أكثر من عشرين كتابًا في الفلسفة والتوحيد:
"اعتنقت الإسلام؛ لأنه الدين الوحيد الذي يجد الإنسان فيه روحه وأشواقه ومستقبله، وهو دين المعرفة؛ لأنه يدعو معتنقيه إلى التزود بالعلم والعمل به، ولا غرو في ذلك؛ فإن أول آية من القرآن الكريم
إقرأ هي التي جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد".
ويقول الأستاذ تريتون أستاذ الدراسات الشرقية الإفريقية بجامعة لندن:
"إن الإسلام يعطي كلاًّ من الدنيا والآخرة حقهما، وفي وسع المسلم أن يعيد النظر في حياته دون أن ينقطع عن الماضي، وله أن يراجع أحكام المعاملات والشريعة؛ لأن باب الاجتهاد لا يزال مفتوحًا، والمسلمون يجتهدون اليوم ليثبتوا أن الإنسانية الصادقة والآداب القديمة والعقل السليم تُلغي أرفع تعبيراتها في شريعة الإسلام وأحكامه، ويسلمون على أن واقعهم اليوم ليس على ما يحبون، وأن الإصلاح ضرورة لا محيص عنها، لكنهم يصرون على أن الإسلام دون غيره هو الذي يصلح لمطالب النوع البشري".
ويقول المستشرق الإنجليزي هاملتون . جب:
"إن الإسلام ما زال في قدرته أن يقدم للإنسانية خدمة سامية جليلة، فليست هناك أية هيئة سواه يمكن أن تنجح مثله نجاحًا باهرًا في تأليف الأجناس البشرية المتنافرة في جبهة واحدة أساسها المساواة.. فالجامعة الإسلامية العظمى في إفريقيا والهند وإندونيسيا، بل وتلك الجامعة الإسلامية الصغيرة في الصين أو في اليابان، لتبين كلها أن الإسلام ما زال له القدرة على أن يسيطر كليًّا على أمثال هذه العناصر المختلفة الأجناس والطبقات، فإذا ما وضعت منازعات دول الشرق والغرب موضع الدرس؛ فلا بد من الالتجاء إلى الإسلام لحسم النزاع"(3).
ونختم هذا المقال بهذه الشهادة التي يقدمها الكاتب الألماني (ياول شميتز) في كتابه: (الإسلام:
وة الغد العالمية) والذي كتبه في الثلاثينيات من القرن الماضي، ينبه قومه إلى مواطن القوة في الإسلام فيقول: "سيعيد التاريخ نفسه مبتدئًا من الشرق، عودًا على بدء من المنطقة التي قامت فيها القوة العالمية في الصدر الأول للإسلام، وستظهر هذه القوة التي تظهر في تماسك الإسلام ووحدته العسكرية، وستثبت هذه القوة وجودها إذا ما أدرك المسلمون كيفية استخراجها والاستفادة منها"(4).
إن الإسلام بما له من خصائص وسمات تفرد بها عن سائر الأديان والمذاهب والملل، هو المرشح وحده لقيادة الأرض، دون أن يشعر واحد من أهل الأرض جميعًا أن الإسلام طامع فيه أو معتد عليه أو يبغي من ورثته نفعًا دنيويًّا في أية صورة من الصور؛ لأن الإسلام منهج الخالق إلى جميع المخلوقين نزل إليهم ليسعدوا وينعموا، ولتدم فيهم كلمة الأمان والرضا والسلام.
كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ (إبراهيم: 1).
صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ (الشورى: 53).
-------------------
الحواشي:
(1) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين. ص 237.
(2) قصة الحضارة. ج 6 ص 418 – ترجمة محمد بدران.
(3) أنور الجندي ص 158.
(4) أنور الجندي ص 153.