بقلم: د. حمدي فتوح والي
إذا كانت قرائن الأحوال، وشواهد الأحداث، وبواعث الحروب بين الشرق والغرب ونتائجها، تؤكد بوضوح ظاهر أن الغرب يمارس ضد الشرق الإسلامي حرب إبادة، ويكنُّ له بركانًا من الحقد الأسود، والتدمير الرهيب، فإن ذلك أمر لا يلام عليه الغرب، ولا ينكره عليه مسلم صادق الإيمان عميق اليقين؛ لأن الغرب ينسجم في اتجاهه هذا مع المهمة التي أخذها على نفسه منذ بزغ فجر الإسلام وانتشر نوره، وهي مهمة الكيد القاتل للإسلام.. واستجماع العزيمة كاملةً لتدميره وإبادة أهله.
وهو ما أعلمنا الله به بقوله:
(وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (البقرة: من الآية 120). والمتتبع لتاريخ العلاقات بين الشرق والغرب، يلاحظ حقدًا مريرًا، يملأ صدور الغرب حتى درجة الجنون، يصاحب هذا الحقد خوف رهيب من الإسلام، إلى أبعد نقطة في النفسية الأوروبية، هذا الحقد وهذا الخوف لا شأن لنا بهما إن كانا مجرَّد إحساس نفسي شخصي، أما إذا كانا من أهم العوامل التي تبلور مواقف الحضارات الغربية من الشعوب الإسلامية، سياسيًّا واقتصاديًّا، وحتى هذه الساعة؛ فإن موقفنا يتغير بشكل حاسم" (1).
إنَّ إصرارَ الغرب الحاقد على مواقفه تلك، وعدم التحرج من إظهارها وإعلانها، والتحدي السافر لكل ما هو إسلامي وعربي، لم يقع منا موقع المفاجأة، ولم يحرك فينا أدنى شعور بالدهشة أو الاستغراب، بل إن محاولات الإنكار والتخفي، ومحاولة ترويج مبادئه وتنفيذ خططه عن طريق وسطاء أو عملاء يختارهم من بلادنا ومن أهل ملتنا، حتى لا يلفت أنظارنا إلى خططه، أو يهيج شعور الإيمان فينا، فننتفض في وجهه ونزلزل الأرض من تحت قدميه، تلك المحاولات كانت هي المستغربة والمدهشة.
لقد حرص الغرب بشقيه الأمريكي والأوروبي حرصًا شديدًا على عدم إظهار عداوته أو كشف خططه على مدى مئات السنين، حتى وإن اقتضى الأمر أن يعلن رئيس دولتهم احترامه للإسلام، كما حدث مع نابليون في مصر؛ لأنه كان يدرك عن يقين، أن رصيد الإسلام المذخور في صدور هذه الأمة إذا ثار لا يقاوم ولا يصادم؛ لأن الفطرة يومها كانت نقية، والعقائد كانت قويةً، والسواعد كانت فتيةً، ولأن علماء الأمة وعوامها لم ينخدعوا بدعوى العلمانية وعزل الدين عن طبيعة الصراع، تلك الدعوى الخبيثة التي روج لها اليهود، وأقنعوا بها بعض أبناء جلدتنا ممن انهزموا أمامهم، وسارعوا فيهم، وألقوا قيادهم بأيديهم، آملين أن ينالوا رضاهم، وجعلوا من أنفسهم َخدَمًا للمستعمر حتى يحققوا عن طريقه بغيتهم في حكم البلاد وإذلال العباد، ولأن الأمة لم تنخدع بهذه الدعوى، دعوى العلمانية، فقد ظلت ثابتةً راسخةً شامخةً، يُخشى بأسها ويُتقى غضبها.
إن المحاولات التي بذلها الغرب على مدى ثلاثة قرون كانت مرصودةً وموجهةً لعزل القرآن عن ميدان المعركة، فاجتهدوا للوصول إلى تحقيق هذا الهدف بكل وسيلة ممكنة، لقد أدركوا خطورة القرآن وأثره البارز في حياة المسلمين فحاولوا الطعن فيه أو التشكيك في آياته، أو تحريف بعض كلماته، لكن َحفَظَة كتاب الله، وغيرة العلماء المخلصين لم تمكنهم من ذلك، فقد أعد الله لهذا الكتاب العظيم سياجًا حاميًا من مكر الماكرين، وتدبير الحاقدين، ومحاولات الكافرين فاتجه مكرهم وكيدهم إلى عزل الناس عنه، أو عزله هو عن حياة الناس، ولا يظن القارئ أن عملية العزل تعني تغييبه وإخفاءه، فهم يدركون أن ذلك يحفز الأمة إلى زيادة الحرص عليه، والإقبال على حفظه وتجويده، لكن عملية العزل اتجهت إلى الحيلولة بين هديه ومنهجه، وبين حياة الناس؛ ليتحول القرآن بعظمته وجلاله وخطورته، إلى أداة كسب، أو وسيلة تبرك، أو تعويذة من الحسد، إمعانًا في إهانة القرآن وتهميش دوره، وإبطال أثره.
وأصبح من المألوف المقبول أن تفتح إذاعة من إذاعات المسلمين وغير المسلمين فتجدها تبدأ بثها بالقرآن على سبيل التبرك، ثم يعقب القرآن مباشرةً، أغنية خليعة، أو رقصة ماجنة أو صورة فاضحة، لتؤكد في حس السامع والمشاهد أن القرآن شيء وما يمارسه الناس في حياتهم شيء آخر، وأنه لا علاقة بين القرآن وبين ما يقع من الحلال أو الحرام، وبكثرة وقوع هذا الأمر يتحول إلى شيء مألوف ومعتاد، وتنصرف أذهان الناس عن استقبال الآيات لتكون منهج حكم أو مصدر تشريع، أو وسيلة توجيه، أو تربية أو تقويم، وليقتصر دورها في حس العوام والمثقفين على جانب الطرب بصوت القارئ، أو الوجاهة بقراءته في سرادق ضخم، وعن طريق مطرب "قارئ" مشهور، ليبتلع هذا القارئ المحترف عشرات الآلاف من الجنيهات التي هي كل ما تركه المتوفى لصغاره الأيتام، وليحكم عليهم بالموت بعد أبيهم جوعًا وفقرًا، ولا بأس بذلك في نظر أعمامهم الجاهلين أو ذوي قرباهم ما داموا هم قد حققوا لأنفسهم الوجاهة، وأحاديث المقاهي على ألسنة الفارغين والجاهلين.
إن المؤامرة على القرآن للحيلولة بينه وبين حياة المسلمين كانت أخطر معركة كسبها الكافر الصليبي واليهودي بمكره وحيلته، ولم يتعجل الخطوات ولم يستكثر الثمن، ولم يستبطئ النتائج؛ لأنه يدرك تمامًا أنه بطيء لكنه أكيد المفعول.
وإذا كانت السذاجة والغفلة قد بلغتا من المسلمين– حكامًا ومحكومين- حدًّا جعلهم لا يدركون حقيقة القرآن وعظمة القرآن، وأثره في حياة الأمة، فإنني أردهم إلى كلمة رئيس وزراء بريطانيا الأسبق "جلاد ستون" التي قالها أمام مجلس العموم البريطاني، هذا المجلس الذي اجتمع ليقف على نتائج عمل الجيوش البريطانية في بلاد الإسلام ولكي يطمئن إلى نفاذ الخطط ونجاحها، فجاء رئيس الوزراء ليقدم تقريره في أخطر معركة تقودها بريطانيا باسم "الغرب الصليبي" فوقف يقول: "ما دام هذا القرآن موجودًا في أيدي المسلمين، فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان" (2).
إن الله سبحانه وتعالى الذي أنزل القرآن قد لفت أنظار الأمة إلى خطورة أثره، ودلهم على كيفية التعامل به مع الناس، فقال يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم:
(طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)) (طه)، وخاطب الأمة كلها بأن تحسن التلقي، وترتفع بهمتها إلى مستوى التشريف بقوله: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ) (البقرة: من الآية 63). وأعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بأن أعظم الجهاد هو الجهاد بالقرآن وأمره بأن يعتصم بهذا الكتاب ويتمايز بمنهجه عن الكافرين بقوله:
(فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)) (الفرقان)، وأعلمه بالغاية التي من أجلها نزل القرآن، وهي قوله تعالى:
(كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ (1)) (إبراهيم). ودله على مكانة القرآن وأثره في حياة الأمة بقوله:
(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ (53)) (الشورى). وحتى تعلم الأمة فضل الله عليها بهذا الكتاب، فقد خاطبها ربها بقوله:
(لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (10)) (الأنبياء).
وتأمل معي أخي القارئ هذا الاستفهام التعجبي الاستنكاري الذي يختم الله به الآية بقوله:
(أَفَلاَ تَعْقِلُونَ).
إنني أحس أن الأمة اليوم تعاني غيابًا عقليًّا وروحيًّا فاضحًا، حتى احتاجت أن تخاطب بهذا التقريع الشديد، الذي افترض فيها غياب العقل، وعبثية العيش.
ولا أجد ما يتناسب مع جلال القرآن وشهر القرآن إلا أن أذكِّر أمة الإسلام بالغائب العزيز الذي غاب بغيابه عزنا وفخرنا، وغابت بغيابه مكانتنا بين الأمم فصار حالنا كقول القائل:
ويُقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأذنون وهم شهودُ
فأجد لزامًا عليَّ وعلى كل من ابتلاه الله بالقدرة على إيقاظ الأمة وتنبيهها وحسن هدايتها إلى سبيل ربها، أن أذكِّر أمتي بقول خالقها سبحانه يخاطب نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم:
(فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)) (الزخرف).
إنني أشعر بحالةٍ من الرهبة تصل إلى حد الرعب، وأنا أقرأ ختام الآيتين
(وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ)، ويزداد رعبي ورهبتي عندما أدرك عظمة مَن يتوعد، والذي سيتولى السؤال وهو الخالق الجبار سبحانه وتعالى، وهل تدرون ما معنى أن نُسأل؟ هذا ما يفسره حديث عائشة رضي الله عنها عندما قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته: "اللهم حاسبني حسابًا يسيرًا".. فلما انصرف قلت: يارسول الله، ما الحساب اليسير؟ قال: أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه، من نُوقش الحساب عذب". وفي رواية "من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك" (3).
إن الأمة التي أعطيت القرآن، وألهمت فقهه وأسراره، وهديت إلى عظمة ما فيه من تشريع وتقنين، أمة غير معذورة، إذا هي تركته َفضَلَّت، أو أهملت تشريعه فافترس القوي فيها الضعيف، وحرمت نوره وروحه فغابت عن حياتها نداوة الإيمان وبرد اليقين..
(نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ) (التوبة: من الآية 67).
إنني أشفق على أمتي التي هجرت القرآن دستورًا وضيعته شريعةً وأخلاقًا من قول ربي سبحانه:
(وَقِفُوَهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ (24)) (الصافات)، وأستحضر حالة الرعب والهول وحالة الألم والحزن عندما أسمع نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم يشكو إلى ربه حال أمته في قوله تعالى:
(وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُورًا (30)) (الفرقان). يقول ابن كثير في بيان المقصود بالهجر في الآية: "ترك الإيمان به وترك تصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره من هجرانه" (4).
وقد تعجب إذا قلت لك إن غالب أبناء الأمة واقعون في جريمة هجر القرآن، بصورةٍ أو بأخرى، حتى وهم يقرءونه ويتنافسون في ختمه في رمضان، ويظنون ذلك غاية ما ينبغي فعله لخدمة القرآن وإعطائه حقه، وذلك راجع إلى جهلهم بالغاية التي من أجلها نزل القرآن، وهو أنه كتاب هداية وتشريع وبيان، نزل إلى الأرض ليحكم ويهدي ويشفي ويخرج الناس من الظلمات إلى النور، فإذا اكتفى بعض المتدينين بكثرة القراءة والمنافسة في عدد مرات ختمه في رمضان أو في غير رمضان، فإنهم بذلك لا يزيدون عما تفعله إذاعاتنا من الاكتفاء بقراءته ثم البدء مباشرةً في مخالفته ومناقضته، ولا يعني ذلك أني أقلل من شأن القراءة، فأجر القراءة معلوم غير مجهول، لكنني أريد أن أعلم القارئ أن القراءة وسيلة إلى الفهم، والفهم وسيلة إلى التطبيق والتنفيذ، أما من يكتفي من القرآن بقراءته فقط ويحسب بتلك القراءة أنه أدى عبادةً وأعذر إلى الله، فإني لا أجد له مثالاً إلا بالمريض الذي ذهب إلى الطبيب، فشخص له داءه وكتب له دواءه، وبدلاً من أن يذهب المريض ليتعاطى الدواء طبقًا لوصف الطبيب، رأيناه يكتفي بقراءة تذكرة العلاج وحفظها عن ظهر قلب دون أن يتعاطى شيئًا منها، أترى هذا الفعل وحده كافيًا ليكون سببًا في الشفاء؟ ألست معي في أن هذا الفعل لا يليق بالعقلاء؟
لقد علَّمنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تكون الجدية مع القرآن، فقد روي عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قال: "حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن، كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا" (5).
إنني أهيب بأبناء أمتي- حكامًا ومحكومين- إن كانوا جادين في إخراج الأمة من حالة الغثائية والوهن، أن يعودوا بالقرآن إلى الناس منهاجًا لحياتهم، ودستورًا لتشريعهم، ومرجعًا لأخلاقهم، ومعيارًا دقيقًا لحلالهم وحرامهم، ونبعًا صافيًا لوجدانهم وقيمهم وآدابهم وسلوكهم:
(قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)) (المائدة).
-------------
* الهوامش:
(1) جلال العالم – قادة الغرب يقولون – الطبعة التاسعة – دار السلام.
(2) الإسلام على مفترق الطرق، محمد أسد، ص 39.
(3) رواه الإمام أحمد بإسناده عن عبد الله بن الزبير عن عائشة، وهو صحيح على شرط مسلم.
(4) تفسير ابن كثير ج1 ص 317.
(5) أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن عطاء بن السائب، وأخرجه ابن جرير في مقدمه تفسيره وصححه أحمد شاكر.