لماذا لا نكونُ أنفسَنا؟!
"معظم الناس هم ناسٌ آخرون، أفكارُهم آراءُ شخصٍ آخر، وحياتُهم تقليدٌ، وعواطُفهم اقتباس". أوسكار وايلد.و"خلال إحدى الجلسات الاقتصادية كان كلُّ مستشاري أوباما يوافقونه على نفس الرأي؛ ما أغضب أوباما وطردهم من الغرفة، طالباً منهم العودة برأي مخالف.. ويقول لورانس سومرز- المستشار الاقتصادي لأوباما-: "إنه يرغب في الاستعانة بمستشارين تكون لديهم وجهات نظر مختلفة؛ لتقاسم وجهات النظر المختلفة، وهو حريص على سؤال الأفراد الذين لم يتحدثوا عما إذا كان لديهم رأي يمكن أن يطرحوه".
ما سبق من الاقتباسات, صحيح, بقطع النظر عن قائله, وفاعله, وقد صح: "لا تكونوا إمَّعة…" موقوفاً على ابن مسعود, ومعناه صحيح.
وهذه الأصالة في التفكير, وفي الرأي, الناجمة عن الإيمان بأهمية التنوع, فكرياً, وعملياً. وهذا التنوّع المفضي إلى أعلى الآراء, لا فرصة له؛ حين يتصنع الناس التشابه, والتقليد، فوق أنه يستلزم تشويه الكثيرين, فكرياً, وطمس فاعليتهم العقلية؛ فيمَّحي تفردُهم الذي يؤكد وجودهم.
فأصعبُ شيء على الإنسان السويِّ: الخضوعُ والاستلاب, أمام بشر, مثله, يصيبون ويخطئون, ومن أفدح تجلّياته أن يغدو المرءُ مستلبَ الرأي؛ وأشدُّ منه، وأفدحُ, أن يظن المرءُ نفسه حراً في التفكير, وأصيلاً, وصوتُه، في الواقع، الصدى, ورأيُه، رأيُ الآخرين.
في مجتمعاتنا العربية تسحق سلطةُ الجماعةِ الفردَ؛ فيتعطل تفكيرُه, أو يكاد، تحت طَرَقات التفكير الجماعي الأقل عمقاً, والأبعد عن التطور والإبداع.
وعلى الصعيد الاجتماعي؛ كثيراً ما نشهد نقاشات يختلف فيها طرفان؛ فيتولد رأيان؛ فما يلبث أن يميل قسمٌ من الحضور مع أحد الطرفين؛ دون أن تكون ثمة محاكمة عقلية, أو اقتناع بالحجج, بقدر ما هي المجاملة, والتحكم الشخصي.
وكم تكشَّف للناس, بعد حين, أن اتِّباعهم لشخصية ما، بالإبهار, أو بالشَّغَب, والضجيج، قد جلب عليهم السخرية, وعرَّضهم للحرج!
سطوة الرأي السائد تعطل الرأيَ الذاتي, أو تصادره؛ فمثلاً, تشتهر قناةٌ تلفزيونية, أو يعتلي عرشَ الشعر شاعر؛ فينساق الكثيرون دون نظر في هذا الرأي، انسياقاً عمومياً؛ فيتذوقون بألسنة الآخرين, ويسمعون بآذانهم!
وفي النتائج.. انقيادٌ أعمى, وطمس للحقائق.. أخالفُ الرأي القائل بتحميل النُّظم الحاكمة, وحدها, المسؤولية عن هذه الآفة, أو فَلْنَقلْ الماحقة؛ بحجة رغبتها في تدجين الناس, وتطويعهم, وتخليصهم من نزعات الثورة والتمرّد.
إن كثيراً من الأمهات, وهنَّ يربينَ أولادهن, ويشكّلنَ تفكيرهم, يغرسْنَ في شخصياتهم ممالأة الناس, والانصياع لآرائهم, "ماذا سيقول عنك الناس؟", و" الناس سيضحكون منك، إذا فعلت كذا". فقلَّما تعمل الأم على توطين الجرأة في الولد؛ ليعلن رأيه, وينفِّذ خياراتِه.
فالمسألة، بالطبع، أكبر من خلل سياسي سطحي؛ إنه, ويا لَلأسف! قارٌّ في البِنْية العميقة من ثقافتنا السائدة.
وإذا انتقل الطفل إلى المدرسة فإنه يُجابَه بقوالب تربوية جاهزة, ومعلومات يُطالَب بحفظها، دون أن يدرك في كثير من الأحيان أهميتها, أو يقتنع بحاجته إليها، وإذا ما غرَّد الطفل, أو الشاب في المراحل التعليمية العليا, حتى, خارج السرب؛ فإنه يكون عرضة للتَّندر والسخرية من معلميه أحياناً، قبل زملائه؛ فتتولد في نفسه الشخصيةُ المزدوجة؛ فيتوهم أن موادّ المدرسة فوق نطاق التفكير الذي يَعْرف؛ فإما أن يفشل في دراسته, وإما أن ينجح في تقمُّص تلك القوالب, ويكرّرها, دون اقتناع, في الغالب, أو تبنٍّ.. وبعد أن ينخرط الفرد في مجتمعه, وتُلقى عليه أعباؤه, يصبح أكثر تكيُّفاً مع ذوق هذا المجتمع، وأكثر تطلباً للسِّتر, والمشي بجانب الحائط. والخسارة الفادحة أننا حُرمنا من كامل الطاقات الفكرية، والتنوعات الوجدانية, والذوقية, واكتفينا بالسائد منها.
قدّسْنا الفكرة الطاغية, وناهضْنا كل جديد، وصار مقياسُ الذكاء الاجتماعي, والثقافي, في مقدار التكيف مع المألوف، وإعادة إنتاجه!
لعل أول الأسباب-كما قدمت- تربوي, وبعده أمور, ترتدّ إلى افتقار القدرة على توليد الآراء, ومنها تردِّي مستوى التفكير, أو قلة فاعليته, أصلاً, مقابل التقليد والتأثُّر السلبي. وفي ملابسات ذلك, ضآلةُ المحصول الثقافي الذي يمكِّن من القدرة على المحاكمة الفكرية. وفي بعض الحالات يرتد هذا الداء إلى نوازع نفسية تعود إلى التعلق بالجماعة, والخوف من التفرّد بالرأي, أو الجهر بذلك. وفي الأمثال العربية الكثير مما يشي بهذا العقل الجمعي, كما يقولون: "الموت مع الجماعة رحمة", وقولهم: "قاربِ الناسَ في عقولهم، تسلمْ من غوائلهم", وكثير غيره مما يحض على المسايرة, والمداراة, والتملّق، وكثير من الناس يعدُّ ذلك آيةَ الكياسة, والدهاء!
ولكن الأخطر من ذلك أن يقع الفردُ ضحيةَ الاستلاب لمجتمعه, أو لمفكر, أو عالم, يعظِّمه- دون أن يشعر- فيغدو نسخة منه, وهو يظن أنه يعبر عن ذاته, ويَصْدر عن تفكيره!
علاج هذه العلة التربوية الاجتماعية مفتقر إلى النَّفَس الطويل, وعلى طريقه معالم, أولُّها الثقافةُ المستنيرة, ومنها اتجاه نحو تنمية الأصالة في التفكير, وتشجيع التجريب, وتثمين الجرأة في التعبير عن الرأي، دون مجاملة, أو مكاذبة, وهنا لا بد من نماذج…
هذا, والنمط التَّفردي الإقصائي في الفكر والممارسة, يتسيّد, بتواطؤ ممن قبلوا بالتهميش, حين يكرِّس الزعيم قيادته الفردية, ورؤاه المتقلبة, ويغدو أتباعُه من حوله كالأشباح, أو كالصدى, وهذا ليس غريباً, وإن كان مستنكراً, لكن الغريب أن يقبل أناس كرّمهم الله, بالإرادة الحرة, أن يدخلوا في إِسار الانقياد للبشر.. فمتى استعبدتم أنفسكم, وقد ولدتْكم أمهاتُكم أحراراً؟!
د. أسامة عثمان