دكتورة بكلية البنات جامعة الأزهر
إن بناء مصر جديدة حرة تحقق العدالة والديمقراطية أملٌ داعَبَ كل المصريين طيلة ستين عامًا مضت؛ انطلاقًا من قيام ثورة يوليو والتي تحوَّلت إلى جلاَّد للشعب الذي تضامن معها، ثم خانته في ظل حكومات مستبدَّة، أفرزت نظمًا بوليسيةً قمعيةً هيمنت على النفوس والعقول والأرزاق، بما يحقق مصالحها الخاصة، فاغتالت كرامة الإنسان، بل وفرَّغتها من كل قيمة.
إنسانية إيجابية حرة.. وزرعت بداخلها الخوف وروح الهزيمة النفسية والسلبية المقيتة التي أفقدت الإنسان المصري روح مقاومة المستبد ومراجعة بطشه وجبروته عدا من وقفوا في مواجهة هذا الجبروت من أبناء الوطن، كالإخوان المسلمين وغيرهم ممن دفع ثمنًا باهظًا فاتورةً لهذا الاستبداد من حياته وحريته وماله فمن أعظم الجهاد كما يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: كلمة حق تقال عند سلطان جائر.
وجاءت اللحظات الفارقة في عمر هذا الوطن العزيز، فانطلقت شعلة التغيير كمنارات تضيء مصر الجديدة، تلك الشعلة التي أضاءها شبابنا المؤمن الحر، وفي سبيل تحرير تراب هذا الوطن من طغمة الاستبداد، بذلوا أرواحهم زكيةً سخيةً فداءً له، تلك حرية باهظة الثمن، تقتضي منا جميعًا تقديم الكثير من التضحيات أيضًا ابتغاء مرضاة الله لمواجهة الظالمين بظلمهم ووأدًا للفتنة، وتحقيقًا للأمن والأمان، والقيام بواجب البناء والعمران في مناخ من الحرية والعدالة، وحماية لاستقرار الثورة ونجاحها علينا التضحية كما ضحى شبابنا، وأقل التضحية هي التخلي عن المصالح الخاصة، وعدم الاستجابة للفتن والوشايات والتعامل بسوء الظن وعدم الثقة والشك، فلم يكن من عدو للشعب غير هؤلاء الذين حكمونا وأوغروا صدور أبناء الوطن الواحد؛ مصداقًا لقوله تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص: 4).
نحن نحتاج إلى تحديد مسارات جديدة تنهض بالأمة نحو نهضة حقيقية ترتقي بنا إلى المستوى الإقليمي والدولي اللآئق بمكانة مصر كدولة رائدة على مدار التاريخ والذي تراجع خلال ثلاثين سنة خلت، نحن بحاجة إلى الحيلولة دون صناعة أصنام جدد، وذلك يقتضي منا إحياء الضمائر الحرة والنفوس المخلصة والالتزام بالقيم العليا التي أحيتها الحالة الثورية الآنية بعيدًا عن الانتهازية السياسية ومذهب "الغاية تبرر الوسيلة"؛ التي ترفضها النفوس السوية.
أرجو أن تظل ضمائرنا حرةً يقظةً؛ فهي الركيزة الأساسية لعدم صناعة أصنام جديدة، والعودة إلى حالة ما قبل الثورة.
إن ما يحدث اليوم من فتن واضطرابات بسبب الثورة المضادة لا تتأتّى من إنسان شريف يحب وطنه، فعلينا كشفهم، وعدم الانقياد للشائعات وأعمال البلطجة التي طالما عهدناها من النظام السابق كثيرًا، وأن تكون هناك مصارحة وتفاهم وإحداث قناعة بأهمية وحدة الشعب، وضرورة البناء والعمل من خلال الأعمال الإيجابية التي تحقق الوحدة الوطنية.
نحن أيضًا بحاجة إلى وضع ضوابط دستورية، تمنع تغول السلطة التنفيذية مع استقلال القضاء وخضوع جميع أجهزة الدولة للمساءلة القانونية؛ أفرادًا ومؤسسات.
إن القضاء على الفساد سيكون أول الطريق لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، والذي كان- وما يزال- يستنزف أموالاً طائلةً من مواردنا الاقتصادية، فهناك عائدات قناة السويس التي تقدَّر بما بين 425: 450 مليون دولار في الشهر، وكانت تذهب إلى أمن الرئاسة ومصروفات سرية أخرى لا تضاف إلى ميزانية الدولة وكذلك ميزانية أجهزة الإعلام الحكومي والتي وصلت بعض مرتبات سدنتها إلى المليون جنيه شهريًّا أو مئات الآف، وهناك أيضًا الأموال التي كانت تذهب إلى ميزانية أمن الدولة والتي أرى أن توفر ميزانية هذا الجهاز وتُدمج في مؤسسات الأمن العام فيما يخص أمن البلاد الداخلي ومؤسسة المخابرات العامة للأمن القومي، كقضايا الجاسوسية وغيرها من القضايا، فضلاً عن توفير ما كان يهرَّب سنويًّا من أموال للخارج قدِّرت بـ300 مليون دولار، منها- وحسب تقرير منظمة النزاهة الدولية- أن تحويلات مالية فاسدة خارج البلاد وصلت إلى 7 مليارات دولار سنويًّا، وكذلك استرداد أراضي الدولة المنهوبة التي وزِّعت على الصفوة والمحاسيب، ونأمل أيضًا أن نقوم بخطوات إيجابية في مجال الصناعات الصغيرة والثقيلة وإعادة الاعتبار لصناعة الغزل والنسيج والإنتاج الزراعي، وأن تكون المحاصيل الأساسية كالقمح والأرز والذرة والقطن من أولوياتنا والاستعانة بالعقول المصرية الرائدة لتوفير التكنولوجيا اللازمة لتحقيق ذلك.
أما عماد النهضة الحقيقية فهو في الثروة البشرية الخلاَّقة، والتي أهملت وجهلت واعتبرت عبئًا ثقيلاً على الدولة، بفضل سياسات ممنهجة ومقصودة، وقد آن الأوان لاستعادة هذه الثروة الغالية، وخاصةً الشباب والنشء الجديد فهم العقول الجديدة المبدعة والطاقة الخلاقة، والتي تمثل الغالبية العظمى من عدد السكان، بينما نجد أن الدول الأوربية تعاني من انقلاب الهرم السكاني: المسنُّون فيه هم الغالبية، وهم طاقة غير منتجة، وتنفق عليها ملايين الدولارات، بينما تعاني من قلة في الطاقة البشرية المنتجة والمتمثلة في الشباب؛ ولذا فهي تحتا ج دومًا إلى العمالة الأجنبية.
أرجو أن يكون التعليم هو المشروع القومي القادم، وفق معايير منهجية حديثة، فضلاً عن التركيز على تربية أبنائنا على القيم الاجتماعية والدينية والوطنية، وتعزيز الانتماء، وعلى المؤسسات التربوية القيام بهذا الدور، كالمدرسة والمسجد والكنيسة والإعلام، والقيام بكل ما من شأنه دعم الوحدة بين أبناء الشعب الواحد، ولا ننسى دومًا أن شرَّ ما ورثناه من النظام البائد هو الفساد والفتنة الطائفية؛ فليذهب هذا الشر غير مأسوف عليه.
تلك هي بعض علامات طريق بناء مصر جديدة.. الإنسان فيه حجر الزاوية.. طريق طويل، ولكنه مضاء بشموع الأمل.
الإثنين مارس 14, 2011 1:03 am
