حين دعا أبومازن إلى خروج الفلسطينيين إلى الشوارع وإعلان الإضراب العام يومى 21 و22 سبتمبر الحالى، لتأييد مطلب السلطة الذى وجه إلى الأمم المتحدة لإعلان الدولة، فإن أجهزته خشيت من أن تأخذ الجماهير المسألة على محمل الجد، بحيث تحول ذلك الخروج إلى تظاهرة حقيقية ترفع السقف وتطالب بتغير النظام أو إسقاطه. أرادها لقطة تليفزيونية موجهة إلى الرأى العام العالمى، لكن أجهزته الأمنية خشيت أن تتحول إلى غضبة شعبية تستخرج المخزون فى الأعماق الفلسطينية، فماذا فعلت؟ لجأت إلى الأجهزة الإسرائيلية طالبه تزويدها بأساليب وأدوات تفريق المظاهرات، التى تشتت وتروع دون أن تقتل!
قصة المفارقة رواها الكاتب الإسرائيلى اليكس فيشمان ونشرتها صحيفة يديعوت أحرونوت فى 19/9، وقال فى تقديمها إن أجهزة الأمن الفلسطينية خشيت أن يخرج المارد من القمقم، كما حدث فى مصر وتونس وليبيا، بما قد يغرق حلم الاستقلال فى الدم والنار، مضيفا أن وزارة الدفاع الإسرائىلية فوجئت بالطلب الشاذ، ودخل على الخط الأمريكيون الذين يتولون تدريب الأجهزة الأمنية الفلسطينية حيث طلبوا من الإسرائيليين المساعدة والاستجابة للمطلب. وانتهى الأمر بأن وافق المدير العام لوزارة الدفاع على أن تبيع الوزارة جزءا من الضفة للسلطة الفلسطينية.
واضح من التفاصيل المنشورة أن القلق من «تسونامى» الربيع العربى لم يكن مقصورا على أجهزة السلطة الفلسطينية فى رام الله فحسب، ولكنه كان موجودا أيضا لدى الإسرائيليين. إذ ظلت الفكرة الأساسية المهيمنة لدى الجانبين هى: كيف يمكن السيطرة على الموقف بحيث لا تؤدى مواجهة المتظاهرين إلى إسالة الدماء والقتل. ليس لأن الدم الفلسطينى له قيمته، فقد سالت منه أنهار دون أن يحرك ذلك شيئا، ولكن لأن الدم فى الظرف الراهن بوجه أخص صار وقود الثورات التى تأججت. وهو ما يحرص الطرفان على تجنبه قدر الإمكان. وعلى الجانب الفلسطينى فإن أبومازن أصدر أمرا خطيا منع المتظاهرين من حمل أى سلاح، وشمل الحظر حراس أشخاص معينين اعتادوا أن يتجولوا شاهرين أسلحتهم. وعلق الكاتب الإسرائيلى على ذلك قائلا بأن السلطة أدخلت نفسها فى شرك صنعته بنفسها. فقد التزمت من جهة بأن توقد شعلة عظيمة الأثر تحدث صداها فى كل مكان، لكن قادتها من جهة ثانية ليسوا متأكدين من أنهم سيتمكنون من إخمادها بعد ذلك، أو سيتحكمون فى ارتفاع اللهب على الأقل.
اللافت للنظر فى هذا الصدد أن فيشمان أشار إلى أن الأمور إذا خرجت على السيطرة، فإن أجهزة السلطة تعتمد بدرجة كبيرة على الاستعدادات التى يقوم بها الجيش الإسرائيلى لأجل ذلك. بما يعنى أن أجهزة السلطة فى رام الله ستعتمد على الجيش الإسرائيلى للسيطرة على تظاهرات الغضب الفلسطينى.
الجيش الإسرائىلى كان جاهزا، ليس فقط لقمع الفلسطينيين، فتلك وظيفة أساسية له ولكن أيضا لحماية المستوطنات من تداعيات الغضب الفلسطينى: فقد بنى حول المستوطنات نظام حلقات دفاعية مكونة من رجال حرس الحدود ووحدات شرطة خاصة وجنود تم تدريبهم على تقنيات التعامل مع المظاهرات.
نعرف أن الجنود الإسرائىليين مدربون جيدا على التعامل مع المظاهرات. لكن وسائل تفريقها أصبحت تلجأ إلى أمور غير عادية نسمع بها لأول مرة، من ذلك مثلا أنهم يستخدمون سائلا يسمى «العَفَن»، وهو كريه الرائحة بحيث لا تستطيع الأنوف البشرية تحمله. يرش على الجموع من سيارات خاصة. وقد اشترى الجيش 50 طنا من تلك المياة القذرة. التى خزن فى وحدات خاصة يحرسها جنود دائمو الشكوى من بشاعة الرائحة. وفى رأى الكاتب أنه لو أغرقت الضفة بعشرات الأطنان من ذلك العفن. فستصبح المنطقة الأقذر رائحة فى العالم لأجل طويل. كما أنه من الممكن إلقاء العفن على المتظاهرين من الجو، وإذا وقع الكيس على رأس شخص فإنه لن يصاب جسمانيا، لكن الرائحة الكريهة ستحيل حياته جحيما لمدة ليست قصيرة.
الجعبة مليئة بوسائل أخرى، إذ لديهم أجهزة يسمونها «الصرخة»، تعمل بذبذبات لا تستطيع الأذن البشرية احتمالها. لديهم أيضا سلاح موجه يطلق رصاصا مطاطيا ورصاصا رمليا وقنابل تخويف ودخان، وغاز مسيل للدموع وغير ذلك من الأساليب التى تصدم وتروع دون أن تقتل. إن أحدا لا يذكر الاحتلال الذى هو أصل المشكلة، لكن السلطة والإسرائيليين مشغولون طول الوقت باخضاع الفلسطينيين وتأجيل لحظة انفجار بركان غضبهم فى انتفاضة ثالثة تتجمع سحاباتها فى الأفق.