القشــة .. قصة قصيرة
هذا المرض داهمني وافترسني فجأة .. وبدون أي إنذار ..
كنت في عملي المعتاد بتلك المصلحة الحكومية صباحا .. وشعرت ببعض الدوار ظننت أنه ناتج عن عدم تناولي لوجبة الإفطار في ذلك اليوم .. فطلبت كوبا من الشاي عله يعطيني قليلا من الطاقة التي أنا في حاجة إليها ..
ولكن زاد الدوار عن حده وبسرعة وفجأة غابت عني الدنيا ولم أفق سوي وأنا بإحدى المستشفيات الحكومية وحولي زوجتي وولدي الكبير .. كانت زوجتي باكية وولدي واجما .. سألتهم بوهن ما الخطب .. فانطلقت أساريرهم وطمئنوني بأني بخير مجرد ضعف بسبب الجهد الزائد الذي أبذله في عملي الليلي بجوار عملي الحكومي صباحا ..
نعم .. يجب أن أفعل هذا .. تكاليف الحياة التي يزداد فيه ثمن كل شيء إلا الإنسان .. كيف أستطيع تربية أولادي وتوفير احتياجاتهم كي يتموا تعليمهم ويخرجوا لمعترك الحياة وقد تسلحوا بوظيفة أو وضع اجتماعي يغنيهم عن السؤال ويكفيهم المرارة الذي تذوقتها طوال حياتي .. حتما لابد من الجهد الزائد ..
فلا مورد رزق لنا سوي عملي هذا .. وراتب الوظيفة الحكومية لا يغني ولا يسمن من جوع ..
أخبرتهم برغبتي في الانصراف من هذه المستشفي ما دام الوضع الصحي ليس بسيئ .. ولكنهم اخبروني بأن الأطباء أصروا على عمل بعض التحاليل والفحوصات اطمئنانا عليّ ..
تسرب القلق لصدري بمجرد علمي بذلك ..
ما معني هذا ؟!! .. لو كان الأمر بسيطا ما استلزم كل تلك التحاليل ..
ما سر بكاء زوجتي ووجوم ولدي ؟؟ ..
حتما هو مرض خطير ويريدون تهوين الأمر علي ..
أعلم هذا ..
أعلم أن حياتي كلها سلسلة من المصائب والابتلاءات ..
وهاأنذا بعد أن اقتربت من تحقيق حلمي بتعليم أبنائي وتهيئة المستقبل لهم يداهمني مرض خطير ليقضي علي ويحطم كل ما كنت أصبو إليه ..
حتما ولدي هذا سيترك تعليمه الثانوي بعد وفاتي ليعمل ويتحمل أعباء الأسرة من بعدي .. بل قد يفعل أخواه مثله .. وقد تبحث زوجتي عن عمل يناسبها لتحصل على ما يساعدهم من الرزق .. والله أعلم ما الذي ستتعرض له ..
وابنتي .. لن تكون تلك البنت الكريمة التي كنت أخطط لها .. بل ستصبح فتاة معدمة وقد لا تنل حظا من التعليم ..
تملكتني كل الخواطر السوداء ولم أستطع وقف زحفها على خيالي وعقلي وسيطرتها الكاملة عليهم ..
ولم استطع أن أفه بحرف بعد ذلك .. وهم كذلك صمتوا وكأنهم قد أيقنوا بأني قد علمت كل شيء ..
وفي اليوم الثاني كان المفترض أن تظهر نتيجة تلك التحاليل لتحدد ما بقي لي من العمر لأواجه ذلك المرض الرهيب المفترس والذي بالطبع كعادتي في كل شيء لن أجابهه بضعفي ..
كان الأطباء حولي أثناء مرورهم الصباحي لتفقد المرضي
أخذوا يتناقشون بلغتهم التي لا هي عربية ولا إنجليزية وإنما خليط غريب من هذا على ذاك ..
لم استطع فهم أي شيء من كلامهم .. سوي .. قد نعطيه ..
وقد يستجيب لــ .. والأفضل أن يسير على ..
كلها جمل مبتورة إنما إيحائها واضح جلي .. الحالة مستعصية ..
وترك أحدهم ورقة بها نتائج الفحوصات والتحاليل الخاصة بي وأخذ يفحصني بيده وسماعته .. وعندما خرجوا نسي ورقته هذه ..
فأخذتها وقمت بإخفائها لأعلم منها بالضبط ما وضعي الصحي ..
لست أدري لماذا يصر أطبائنا على معاملتنا على أساس أننا ناقصي الأهلية .. تسأل أحدهم ما بي يا دكتور يبتسم ابتسامة بلهاء ويقول .. سوف تكون بخير اطمئن ..
..
أخذت أسأل كل من معي في الحجرة من المرضي .. هل منكم من يجيد الإنجليزية ..
وبالطبع لا ..
ولحسن حظي زارني قريب لي يعمل بإحدى الصيدليات ويجيد قراءة أسماء الأدوية باللغة الإنجليزية .. وبالطبع سيعلم ما اسم المرض الذي أعاني منه ..
أعطيته الورقة وسألته ما بها ..
قرأها وهو يعقد حاجبيه مرارا وتكرارا ..
وأخيرا نظر نحوي وقال لي .. هل أعلمك الأطباء بما بها ؟؟
قلت له نعم .. أريد فقط أن أعلم مدي تدهور الحالة ..
مط شفتيه وقال ..
.. (( أعتقد أن سرطان الدم وصل لدرجة لا رجوع منها فأنت تعاني من أخطر أنواعه .. ))
نعم .. كنت أعلم هذا ..
شعرت بوخز رهيب في صدري وثقل لا مثيل له يكبل أنفاسي ..
ولم أعد أعلم ما بقية حواره ..
ألقي بالورقة علي المنضدة المجاورة لي وأخذ يسألني في فزع ما بي ولما تغيرت بهذه السرعة .. ولكن أنفاسي المتقطعة لم تسعفني لأن أعبر بحرف واحد ..
وشعرت بألم يعصر ساعدي الأيسر ويكبل كتفي ..
...
دخل الطبيب مسرعا .. فور أن استدعاه الزائر المرافق للمريض .. وحاول إسعاف الرجل بشتى الطرق .. وضع كمامة الأكسجين على أنفه وفمه وحقنه بعقاقير شتى وبسرعة وحاول تدليك القلب .. بل حاول أن يمنحه تنفس صناعي ..
ولكن كانت روحه قد فاضت إلى بارئها ..
كان الطبيب يلفه الذهول وهو يسأل في جنون ..
.. (( ما الذي حدث ؟!! ))
أخبره الزائر قائلا ..
.. (( لست أدري منذ أن أخبرته بمدي إصابته بسرطان الدم .. وفجأة ازرق وجهه واعتصر بالآلام ولم أدري ما الذي يحدث ))
قال الطبيب بدهشة ..
(( .. سرطان الدم .. أي سرطان هذا الذي تتحدث عنه .. الرجل لا يعاني سوي فقر الدم فقط وذلك لسوء التغذية .. ))
قال الزائر في حيرة ..
(( ها هي نتيجة تحاليله التي قرأتها له .. ))
تناول الطبيب الورقة في حيرة وذهول وأمسك برأسه وقد بدأ يلفه الدوار وقال بشحوب ..
(( يا رب العالمين .. إنها لا تخص الرجل إنها لشخص آخر وقد نسيتها هنا صباحا .. )) ..
..
تمـــت بحمد الله