تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :
اللغة العربية غنية بمفرداتها ، ودلالات كل منها على حدة ، وهذا الثراء اللغوي جعل أهلهل يفتشون فيها من حيث دلالة كل لفظة ، وقد ولد هذا التنقيب خلافا بين أهل اللغة حول دلالات تلك المفردات ومسمياتها فمنهم من قال بوجود الترادف ( الكلمة ومعناها ) ومنهم من لا يقر به ، وبالتالي جاء الاختلاف حول التضاد ، وما سمي ( بالتضاد الدلالي )
وقد وجدت سؤالا في هذا الصرح حول الإشكالات في اللغة ، ويقصد به التضاد كما سيتضح فأردت أن أعرضه لعلنا نستفيد ؛
أولاً: مفهوم التضاد في اللغة:
التضاد أن يطلق اللفظ الواحد على المعنى وضدِّه وهو فرع من المشترك اللفظي أي اللفظ الذي له أكثر من دلالة ، غير أنَّ اللفظ من الأضداد له معنيان أحدهما نقيض الآخر، أي أنَّ الاختلاف بينهما اختلاف تضاد لا اختلاف تنوع وتغاير كما هي الحال في المشترك اللفظي .
قال أحمد ابن فارس : "ومن سنن العرب في الأسماء أنْ يسمُّوا المتضادَّين باسم واحد، نحو ( الجون ) للأسود و ( الجون ) للأبيض.
وأنكر ناس هذا المذهب، وأنَّ العرب تأتي باسم لشيء وضدِّه. وهذا ليس بشيء، وذلك أنَّ الذين رَوَوا أنَّ العرب تسمي السيف مهنَّداً والفرس طِرْفَا، هم الذين رَوَوا أنَّ العرب تُسمِّي المتضادَّين باسم واحد .
ثانياً: الاختلاف في وجود ظاهرة التضاد في العربية:
وقد اختلف اللغويون القدامى في وجود ظاهرة التضاد في العربية ، ورأوا أنه لا يعقل أن يُطلق اللفظ على المعنى وضده ، ولأجل ذلك فقد انقسموا على قسمين منهم من يرى وقوعها في كلام العرب، ومنهم من أنكرها، كما أشار إلى ذلك ابن فارس.
فممن أنكر الأضداد ابن درستويه عبد الله بن جعفر الذي أنكر المشترك اللفظي أيضاً ، أي تعدد الدلالات للفظ الواحد، وقد ألَّف في ذلك كتاباً سمَّاه (إبطال الأضداد) . وحجته فيما ذهب إليه من إنكار الأضداد ، أنَّ " اللغة موضوعة للإبانة عن المعاني ، فلو جاز وضع لفظ واحد للدلالة على معنيين مختلفين ، أو أحدهما ضد الآخر ، لما كان في ذلك إبانة ، بل كان تعمية وتغطية ، ولكن قد يجيء الشيء النـادر من هذا لعـلل … فيتوهم من لا يعرف العلل أنهما لمعنيين مختلفين .
وقد رأى بعض الدارسين المعاصرين أنَّ ابن درستويه تلطَّف في إنكار الأضداد ولم يجحدها مطلقاً ، لأنه أقرَّ بوجودها تلميحاً في بعض المواطن .
وقال أبو علي الفارسي : " وقد كان أحد شيوخنا ينكر الأضداد التي حكاها أهل اللغة، وأنْ تكون لفظة واحدة لشيء وضدِّه ". وقد ذهب بعض الباحثين المعاصرين الذين درسوا أقوال الفارسي، إلى أنه عنى بهذا القول ابن درستويه، ولم يقدم حجة على ما قاله، إذ لم يكن ابن درستويه من شيوخ أبي علي الفارسي
ويرى أكثر أئمة اللغة أنَّ التضادَّ واقع في كلام العرب.
ومن هؤلاء: الخليل وسيبويه وقطرب وغيرهم .
ثالثاً: شروط التضاد الدلالي:
يرى محمد بن دريد : أنَّ اللفظة لا تعدُّ من الأضداد، إلا إذا دلَّت على المعنى وضده في لغة واحدة، إذ يقول: الشَّعب : الافتراق ، والشَّعب الاجتماع ، وليس من الأضداد إنما هي لغة لقوم . " فأفاد بهذا أنَّ شرط الأضداد أنْ يكون استعمال اللفظ في المعنيين في لغة واحدة "
ويعلل أصحاب هذا المذهب ظاهرة التضاد بأنَّها تنشأ في لغات مختلفة، ثم تستعير كل لغة المعنى المستعمل عند الأخرى، وبذلك يجتمع المعنيان المتضادَّان في لغة واحدة، بسبب هذه الاستعارة، ويقول هؤلاء: " إذا وقع الحرف على معنيَين متضادَّين فمحال أنْ يكون العربي، أوقعه عليهما بمساواة منه بينهما ، ولكن أحد المعنيين لحيٍّ من العرب، والمعنى الآخر لحيٍّ غيره، ثم سمع بعضهم لغة بعض، فأخذ هؤلاء عن هؤلاء، وهؤلاء عن هؤلاء، قالوا: فالجونُ: الأبيض، في لغة حي من العرب، والجونُ: الأسود في لغة حي آخر ثم أخذ أحد الفريقين من الآخر .
ومن المؤكد أنَّ اللفظة من الأضداد، لم توضع للمعنيين المتضادَّين في بادئ الأمر وإنما وُضِعت لأحدهما، ثم وُجِدت عواملُ مختلفة أدَّت إلى نشأة المعنى الثاني المضاد للمعنى الأول .
فقد نقل أبو بكر بن الأنباري في كتابه (الأضداد) أنَّ بعض العلماء قالوا : " إذا وقع الحرف على معنيَين متضادَّين، فالأصل لمعنى واحد، ثم تداخل الاثنان على جهة الاتساع "
وقد بالغ بعض اللغويين كثيراً في عدِّ ألفاظ كثيرة من الأضداد، ومن يتأمل في تلك الألفاظ يجد أنَّ معظمها ليس من الأضداد في شيء وإنما هي من المشترك اللفظي .
ويشترط في اللفظة لتكون من الأضداد، أنْ تكون واحدة في المعنيَين، لأنَّ أيَّ تغيير فيها، يخرجها عن كونها بذاتها تحتمل المعنيَين المتضادين.
وفي ذلك يقول أبو الطيب اللغوي : إنَّ " شرط الأضداد أنْ تكون الكلمة الواحدة بعينها، تستعمل في معنيَين متضادين، من غير تغيير يدخل عليها» . وقال مرة أخرى: وشرط الأضداد «أنْ تكون الكلمة الواحدة تنبئ عن معنيَين متضادَّين، من غير تغيير يدخل عليها، ولا اختلاف في تصرفها "
ويرى بعض الدارسين المعاصرين أنه يجب ألا يعدَّ من الأضداد أيضاً ما ترك اللغويون الاستشهاد على أحد معنيَيه، لأنه لم يثبت في كلام العرب أنه استعمل بهذا المعنى، مثل قولهم: إنَّ (قَسَطَ) تعني: (عدل أو جار) ، فالمعنى الأول لا دليل عليه، أما الثاني فقد ورد في قوله تعالى: ( وَأَمَّا القَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً ) [الجن:15] أي الجائرون . ويرى كذلك أنه يجب ألا يعدَّ من الأضداد أيضاً الألفاظ التي صحفها اللغويون أو حرفوها فاشتبهت بغيرها من الكلمات التي تحمل نقيض دلالتها . ومن ذلك ما ذكره أبو بكر بن الأنباري في معنى اللفظ (بَرَّد)، حيث قال: " وقال بعض العرب: بَرَّدْت من الأضداد، يقال بَرَّدَ الشيء على المعنى المعروف، ويقال: بَرَّدَ الشيء إذا أسخنه، واحتجوا بقول الشاعر:
عافت الشُّربَ في الشتاء فقلنا بَرِّدِيه تُصَادفيهِ سَخِينا
… قال أبو بكر: و حكى لي بعض أصحابنا عن أبي العباس، أنه كان يقول في تفسير هذا البيت: بلْ رِدِيه من الورود، فأدغم اللام في الراء، فصارتا راء مشددة "
رابعاً: أسباب التضاد الدلالي:
لم يقف علماؤنا القدامى طويلاً عند أسباب نشأة التضاد الدلالي، ولكن أشار بعضهم إلى عدد من أسباب وجود هذه الظاهرة اللغوية، ومن هؤلاء ابن فارس في ثنايا كتابه (الصاحبي) ، والسيوطي . فيما نقله عن المتقدمين بشأن هذه الظاهرة في كتابه (المزهر) .
وقد تتبع الدارسون المحدَثون نشأة هذه الظاهرة، فوجدوا أنها ترجع إلى جملة من الأسباب، أهمها:
1)اختلاف لغات القبائل العربية، وافتراق معاني طائفة من الألفاظ عندهم . وقد يكون المعنى الأصلي للفظة عاماً في لغة قبيلة من القبائل، ثم يخصص معناه في اتجاه مضاد في لغة قبيلة أخرى .
قال أبو زيد الأنصاري : السُّدفة في لغة تميم الظلمة وفي لغة قيس الضوء " وقال أيضاً: " وأنشدنا الأصمعي:
وألقيتُ الزمام لها فنامت لعادتها من السَّدَف المبينِ
يريد الضوء. يقال: أَسْدِف لنا، أَضِئ لنا، والسَّدَف الضوء، والسَّدَف الظلمة "
( 2 ) وتـُرَدُّ بعض أسباب نشأة الأضداد إلى أسباب نفسية واجتماعية مثل: التفاؤل والتشاؤم، والتهكم والخوف من الحسد، وغير ذلك من الأسباب التي تحمل معنى التفاؤل أو التطير .
فمن التفاؤل تسمية العرب للصحراء المُهلِكة: (مفازة)، تفاؤلاً بنجاة من يقطعها وتسميتهم: (للملدوغ سليماً)، تفاؤلاً بشفائه، قاله الأصمعي .
ومن ذلك إطلاق اللفظ وإرادة المعنى المضاد منه على سبيل التهكم والسخرية بالمخاطب، كقولهم للأحمق، يا عاقل. ومن ذلك قوله تعالى مخاطباً أبا جهل: ( ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ) [الدخان:49] وقوله تعالى: ( فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ )[التوبة:34]، جعل العذاب مبشراً به، سخرية بالكافرين(30). إذ إنَّ: " عامل التهكم والهزء والسخرية، من العوامل التي تؤدي إلى قلب المعنى، وتغيير الدلالة إلى ضدِّها في كثير من الأحيان
( 3 ) التطور اللغوي: فقد توجد في بعض الأحيان كلمتان مختلفتان، لهما معنيان متضادان، فتتطور أصوات إحداهما، بصورة تجعلها توافق لفظ الأخرى تماماً، فيبدو الأمر كما لو كانت كلمة واحدة لها معنيان متضادان ، مثال ذلك قولهم: (لَمَقَ الكتاب) إذا كتبه، (ولَمَقَه) إذا محاه. قال علماء اللغة: إنَّ (لَمَقَ) الأولى أصلها (نَمَقَ) وقد أبدل صوت النون فيها لاماً نتيجة التطور الصوتي، فصار الفعل (لَمَقَ)، فتطابق مع نظيره، بمعنى: محا، وتولَّد التضاد بين المعنيَين عن هذا الطريق . وقد ذهب الأصمعي إلى أنَّ التضاد في هذه اللفظة راجع إلى اختلاف اللغات، حيث قال: " لَمَقْتُ الشيء أَلْمُقُه لمقاً إذا كتبتُه في لغة عُقيل، وسائر العرب يقولون: لمقته: محوته
( 4 ) ومن أسباب التضاد أيضاً المجاز والاستعارة، ومثَّل له أهل اللغة بلفظ (الأمة) الذي يطلق على الواحد وعلى الجماعة، فإطلاقه على الجماعة حقيقة، وإطلاقه على الفرد مجاز على وجه المبالغة، فقولهم: (إنَّ فلاناً أمةٌ وحدَه) يعني أنه في رجحان عقله وحكمته يعدل أمة بأسرها .
وقد ذكر العلماء أسباباً أخرى لنشوء ظاهرة التضاد الدلالي لكنها في مجملها لا تخرج عن هذه الأسباب المذكورة
عفوا على الإطالة وشكرا لسعة الصدر