" تمثل اللغة العربية قطاعا هاما في حياة الفكر العربي المعاصر ، فهي القاعدة الكبرى التي قام عليها هذا التراث العظيم ، والأداة الحية للأدب العربي ، واللسان الذي يربط الأمة ، وهي أساس قوى للوحدة بين أجزاء الوطن العربي ، ولا شك كانت لهذه اللغة مكانة ضخمة بين اللغات ، ذلك أنها لم تكن لغة عادية كاللغات في نشأتها وتطورها وامتدادها ، بل كانت مخالفة للنواميس الطبيعية التي عرفت لمختلف اللغات ، فقط ظهرت شابة مكتملة دون أن تمر بمرحلة طفولة أو تتعثر في طريق طويل ، وكان نضوجها من الأعاجيب التي شغلت كل الباحثين والعلماء .
والأعجب من هذا أنها عاشت قرابة ألف وخمسمائة سنة وهي تؤدي مهمتها على نحو حي متحرك ، تجاوبت فيه مع الزمن والتطور ، تفردت حتى بين اللغات السامية باطراد الأوزان وقواعد التصريف وقواعد الإعراب .
واستطاعت أن تجري مع الحضارات وتلبي مطالبها ، وقد أكد الباحثون أن بقاء اللغة العربية على هذا النحو يكاد يكون معجزة من المعجزات .
وقد دخلت اللغة العربية أوروبا حين فتح العرب صقلية والأندلس ، وتردد صداها في الأنحاء الجنوبية ، ولا يزال في الإسبانية والبرتغالية كثير من الكلمات المشتقة من العربية ، وقد جمعها العلامتان دوزي وانجلمان في كتاب سمياه ( مفردات الكلمات الإسبانية والبرتغالية المشتقة من العربية ) طبع في ليدن 1869م.
ثم دخلت الكلمات العربية في لغات أوروبية أخرى كالفرنسية والألمانية والإنجليزية ، وقد حوت اللغة الإنجليزية أكثر من ألف كلمة عربية ، وهناك 270 كلمة من أصل عربي تستعمل في اللغة الانجليزية يوميا ، منها كلمة أمير أو أمير البحر الإنجليزية التي أصبحت: ( أميرال )، وقد رصدت الأبحاث المتعددة أنها أضخم اللغات ثروة وأصواتا ومقاطع وحروفا وتعبيرات ، حتى إنها تفوق اللغة الإنجليزية في عدد الأصوات ، إذ بها (28) حرفا غير مكررة ، في حين أن اللغة الانجليزية بها (26) حرفا ، ومنها مكرر .
وفي اللغة العربية حروف لأصوات لا توجد في كثير من اللغات الأخرى ، مثل الحاء والخاء والضاد والطاء والظاء والعين والغين والقاف ، وقد اشتهرت اللغة العربية بالثراء من ناحية الألفاظ عن طريق المترادفات كثرة واضحة (400 اسم للأسد – 300 للسيف – 200 اسم للحية – 255 للناقة – 170 اسم للماء – 100 اسم للخمر – 70 اسم للمطر ).
كما تنوعت في الأساليب والعبارات : كالحقيقة والمجاز ، والتصريح والكناية ، ومن هذا الغنى والوفرة جاءت مقدرتها الكبرى في غزو الإمبراطوريتين العظيمتين الفرس والروم ، وخاصة الأولى التي نبغ منها كثيرون أمثال : الفيروزأبادي ، وابن المقفع ، وأبو نواس ، وأبو حنيفة ، وقد تحولت اللغة العربية بعد الإسلام من لغة الشعر إلى لغة الشرع والفقه ، وأصبحت لغة علمية وترجمت عنها عشرات من المؤلفات الفلسفية والعلمية .
وقد تجاوبت اللغة العربية مع التطور ، وفي ظل الحضارة العباسية استطاعت أن تساير النهضة ، وأن تعرف الآلات والأفكار ، وصلحت لترجمة مئات من آثار التراث اليوناني والروماني .
واستطاعت أن تقاوم أكبر معركة للقضاء عليها ، وهي حملة التتار على العالم الإسلامي ، ثم حملة الصليبيين ، واستطاعت أن تعتصم بالمعاهد الكبرى كالأزهر والقرويين والزيتونة التي ظلت حامية لها خلال فترة الضعف التي مرت بالعالم الإسلامي ، وفي عهد الأتراك العثمانيين واجهت معركة ضخمة في سبيل البقاء .
واستطاعت أن تقاوم الرغبة في القضاء عليها بإحلال اللغة التركية محلها في المدرسة والمسجد والمحكمة .
وقد أخذت اللغة العربية تزدهر في أوائل القرن التاسع عشر في مواجهة محاولة العثمانيين لزحزحتها عن مكانها ، ثم واجهت معركة أخرى من بعد أشد عمقا مع الاستعمار الذي حاول القضاء عليها ، وشهر عليها حربا أشد قسوة وضراوة .
وليس أدل على قوة اللغة العربية من اضطرار أمثال " أرنست رينان " وهو المتعصب الكبير ضد العرب وحضارتهم من أن يقول في كتابه " تاريخ اللغات السامية ":
" من أغرب ما وقع في تاريخ البشر وصعب حل سره انتشار اللغة العربية ، فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ بدء ، فبدأت فجأة في غاية الكمال ، سَلِسَة أيَّ سلاسة ، غنية أيَّ غنى ، كاملة بحيث لم يدخل عليها منذ يومنا هذا أي تعديل مهم ، فليس لها طفولة ولا شيخوخة ، ظهرت لأول أمرها تامة مستحكمة ، ولم يمض على فتح الأندلس أكثر من خمسين سنة حتى اضطر رجال الكنيسة أن يترجموا صلواتهم بالعربية ليفهمها النصارى ".
ورأى مرجليوث أستاذ اللغة العربية في جامعة أكسفورد أن :
" اللغة العربية لا تزال حية حياة حقيقية ، إحدى ثلاث لغات استولت على سكان المعمورة استيلاء لم يحصل عليه غيرها : الانجليزية والإسبانية أختاها ، وتخالف أختيها بأن زمان حدوثهما معروف ، ولا يزيد سنهما على قرون معدودة ، أما اللغة العربية فابتداؤها أقدم من كل تاريخ ".
ورأى ماكس فانتاجو في كتابه " المعجزة العربية " :
" أن تأثير اللغة العربية في شكل تفكيرنا كبير ، وقد لحظ ذلك الاجتماعي ( شبنجلر )، وسجل ملاحظاته في كتابه الشهير " انهيار الغرب ".
لقد لعبت اللغة العربية دورا أساسيا كوسيلة لنشر المعارف ، وآلة للتفكير خلال المرحلة التاريخية التي بدأت حين احتكر العرب على حساب اليونان والرومان طريق الهند ، ثم انتهت حين خسروها ".
ورأى جورج سارتون أنه :
" هكذا كانت العربية لغة الله – أي لغة القرآن -، ولغة الوحي ولغة أهل الجنة – لم يثبت هذا في الشرع -، أكد الرسول وجوب قراءة القرآن باللغة العربية ، ثم من نتائج هذا الاتجاه العقلي الواحد في التأكيد على الصحة المطلقة للغة العربية أن أصبحت اللغة العربية من اللغات البارزة في العالم ، وإحدى الوسائل الأساسية للثقافة في العصور الوسطى ، وهي - إلى اليوم - لم تزل لغة أمة موزعة في جميع بقاع الأرض .
إن اللغة العربية من أجمل اللغات في الوجود ، إن خزائن المفردات في اللغة العربية غنية جدا ، ويمكن بتلك المفردات أن تزاد بلا نهاية ، ذلك لأن الاشتقاق المتشابك والأنيق يسهل إيجاد صيغ جديدة من الجذور القديمة بحسب ما يحتاج إليه كل إنسان على نظام معين .
ولغة القرآن على اعتبار أنها لغة العرب كانت بهذا التجديد كاملة ، وقد وهب الرسول اللغة العربية مرونة جعلتها قادرة على أن تدون الوحي الإلهي أحسن تدوين ، يجمع دقائق معانيه ولغاته ، وأن يعبر عنه بعبارات عليها طلاوة ، وفيها متانة ، وهكذا يساعد القرآن على رفع اللغة العربية إلى مقام المثل الأعلى في التعبير عن المقاصد " انتهى باختصار.
مقتطفات من كتاب " اللغة العربية بين حماتها وخصومها " أنور الجندي (ص/1-35) مطبعة الرسالة.
وانظر أيضا: " مجلة مجمع اللغة العربية " ( العدد 34، ص/59-64، مقالا بعنوان: اللغة العربية مكانتها القومية والعالمية في القديم والحديث : محمد شوقي أمين . عضو المجمع )
ومقالا مفيدا على هذا الرابط :
http://www.saaid.net/Minute/33.htmوكتابين قديمين:
الأول : " الصقعة الغضبية في الرد على منكري العربية " لنجم الدين الطوفي الحنبلي (761هـ) عقد فصلا بعنوان: فصل في الدلالة على فضل علم العربية (ص/233-279)
والثاني : " الإعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام " للأزرقي الغرناطي .
والله أعلم .