(9)
كثيرون جدا من شباب قريتي ورجالها كانوا قد رحلوا إلي العراق للعمل بها ، بعدها ظهرت
في القرية سحنة المباني الخرسانية .. عاد هؤلاء إلى القرية في عودة شبه شبه جماعية بعد
حرب ما يسمى "بعاصفة الصحراء الأولى " .. جلسوا بعدها على مصاطب القرية عازفين
عن العمل بالأرض ثانية ، يتحينون الفرصة لأي سفر خارج الحدود .
تسلل بعض المتعلمين إلى ايطاليا عبر البحر واستقروا بها .. عاد بعضهم فأقاموا القرية
كلها ولم يقعدوها .. دخولهم هناك كانت فوق أحلامهم .. إحدى الزوجات دفعت بزوجها
الأمي المسن دفعًا إلى التسلل
هو الآخر عبر البحر إلى إيطاليا ، لم تقبله عاطلًا بعد هروبه من العراق ..
أصبح الزوج هذا عجينة تلوكها كل الألسنة بالقرية .. إذا كان هذا الأمي المسن
قد سافر إلى أوربا وعمل فمن لا يستطيع السفر ؟!
اتجهت بوصلة رواد المصاطب جميعًا إلى إيطاليا .
سريعًا سريعًا أشعلت أموال هؤلاء حركة المباني الخرسانية في القرية وأشعلت
أيضًا الأشواق إلى هناك !
في محاولة لأن أنفض عن كاهلي بعض الأحزان ذهبت إلى ملعب القرية ..
ملعب يسمى "جرن الإصلاح" الملعب الوحيد المتاح لاستقبال الفرق من القرى
المجاورة . (مساحة كانت قد خصصت لدراس الأرز والقمح) .. هالني منظر
المباني التي نبتت فجأة في بضعة أشهر حول أضلاع الملعب الأربعة .. مبان
حجرية متعددة الطوابق عرف حوائطها الدهانات الزاهية .. وقفت أتأمل :
هذا البيت الذي مازالت أعمال البناء قائمة فيه يخص شابًا سافر حديثًا إلى
إيطاليا .. البيت الذي يلاصقه وقد اكتمل بناؤه بناه ثلاثة أخوة كلهم هناك ،
والبيت الثالث والرابع والخامس .. وقفت أتعجب .. كل أسرة لها بيت يطل
على الملعب "جرن الإصلاح" لها أيضًا ابن واحد على الأقل تسرب عبر البحر
إلى إيطاليا .. وفي خيلاء يطل عل الملعب بيت فاره يتعالى على سائر البيوت
حوله ، إنه بيت عبد الفتاح ذلك الرجل الذي كان بينه وبين الفقر طوال عمره
المديد علاقة توأمة لا سبيل إلى فضها ، الآن تبخرت تلك العلاقة ،
وعرف الرجل العملات الأجنبية ينطق اسمها بطريقة طفولية ، وعرف
طريق البنوك ، ولغة الأرقام ، ثلاثة من أبنائه عبروا البحر إلى الشمال !
سلواي يا قرة العين ، وبهجة الفؤاد ، سأسافر أنا الآخر ، وسأبني لك بيتًا
لن يكون له نفس الرسوم الغبية ، سيكون له ذوق خاص ، ستعرف مباني القرية
بعده الجمال .. وفي أعماقه ستكون الجنة واقعًا حيًا .
رطب الأمل قلبي وأراح النفس ، وظهرت سلوى أمام مخيلتي وعلى
وجهها الرائع ابتسامة حبيبة أخذتني بعيدًا بعيدًا !
(10)
على استحياء وكأنه يقدم على جريمة الجرائم يبحث الوالد عن زوجة !
ماذا سيقول عنه من سمعوه يبكي الراحلة بصوت جهوري جزع وصل
إلى كل من تبعها إلى مثواها الأخير ؟!
بعد تردد وبحث طويلين وجد ضالته .. سعدية عانس تعدت الخامسة والثلاثين
تعداها ألف قطار وقطر للزواج .. كانت قد أضناها الانتظار حتى يئست
واستسلمت .. أخيرا جاءها قطار الزواج .. لم تكن لها مطالب .
آثر والدي أن تتم الزيجة تحت أستار كأنها عورة يجب أن تختفي وراء
الحجب .. صحبها إلى بيت الزوجية وحيدة ، ولم تعترض !
لم تضع سعدية وقتا .. هي الآن سيدة البيت .. على الفور بدأت تتصرف
وكأنه خططت لكل شيء سلفًا ، تعرف بالضبط ما تفعله .. تتبعت كل
أثر للراحلة تمحوه ولو كان صغيرًا لا قيمة له .
تتدخل في كل صغيرة وكبيرة ، في البيت والحقل ، وسائر علاقات
الأسرة مع الجيران وغير الجيران ..يبدو أن طاقات هائلة كانت
مكبوتة في أعماقها لسنوات طويلة آن لها أن ترى النور .
استدعت طاقاتها الأنثوية المكبوتة وصبت من نهر الأنوثة على رأس
زوجهاما استطاعت . بأساليب عنكبوتية أوقعته في شبكتها .. أصبح
كأنه يرى بعينيها ، يتكلم بلسانها ، كأن أفكارها هي أفكاره الأصيلة .
منذ لحظتها الأولى في بيتها سعت سعيها الدءوب للانجاب .. طالما
لم تحمل فاسمها مكتوب بالقلم الرصاص يسهل في أية لحظة محوه ..
أوراق اعتمادها في بيتنا مرهونة بالإنجاب .. بعد شهر واحد تحقق حلمها ..
تتحسس بطنها تستحث الجنين أن يتحرك .. ظهر للجميع بعد بضعة
أشهر أنها بالتأكيد حامل . تركت ما كانت تفعله في البيت واستنامت
وكلبت منا أن نقوم بعمل كل شيء فضلًا عن خدمتها ..
ظهرت لهفة والدي .. ما عاد يخفي حدبع عليها !
كنت ألمح في عينيها كراهية شديدة لي ، وأكذب نفسي لأني لم أجد
دواع حقيقية لهذا الشعور .. ربما كانت متعبة ، مريضة ، مرهقة
بحملها .. أختلق الأسباب .
- هخلف ولد ، وهيكون أحسن ولد في البلد كلها ، لا في الدنيا بحالها .
كانت تتعمد ذلك القول كلما رأتني ، بمناسبة وغير مناسبة .. وليكن
فهذا الولد أخي .. ليته يأتي للوجود ، ويصبح (نابليون) آخر ،
أو (آينشتين) أو (بيليه) !
تتعمد مضايقتي ، وتطور أساليبها .. أختلق الأعذار لها اختلاقًا .
كان والدي في حقله .. نادت عليَّ بصوت متمارض .. طلبت
مني أن أعلف البهائم .. عنفتني بشدة :
- لازم أقولك اعلف البهايم .. شاطر تطفح انت بس والبهايم تموت م الجوع !
وقفت مشدوهًا من هول المفاجأة لا أجد ردًا .. كيف تكلمني بهذه اللهجة ..
عليوة الذي كان دائمًا يقوم بهذا العمل منذ أن تناومت وهو معي يصل صوته
إليها .. لماذا تخصني أنا بنظرات الكراهية ؟ فوجئت بصوتها عفيًا
خاليًا من لهجة التمارض يصرخ :
- مالك واقف زي الجدار كده ليه .. انت ما بتحسش .. غور بقى اعلف البهايم ،
انت مفيش منك فايدة أبدًا .. شاطر بس تقوول هات .
غطتني سحابة سوداء من حزن كثيف .. أطرقت إلى الأرض
ثم استدرت دون أن انطق حرفًا واحدًا ،
وطلقات سبابها المسممة تنهر تصيب
مني القلب .. نهضت بكل عنفوان تتعقبني بسبابها المنتقى .
انزويت إلى غرفتي .. انكببت على سريري .. وطلقاتها تتسارع وتتعاظم .
أحسست أني قد ألقي بي في محيط للسواد ومازالت سفالات سعدية المحمومة
تهطل عل رأسي كأحجار مسننة .. مادت بي الأرض ، وضاقت بي الدنيا
إلى حد خانق ، لا أدري ماذا فعلت ، ولا ماذا أنا فاعل !
لا أدري كم مر من الوقت حتى عاد والدي .
ما إن سمعت سعدية صوته حتى تفجرت منها ينابيع هائلة من بكاء مرير ..
قفز والدي من فوق حماره وأسرع هلعًا إليها .. أية كارثة تنتظره بعد عناء
يوم شديد ، حاول ثم حاول أن يوقف تيار بكائها لكنه ما استطاع إلى
أن تأكدت سعدية من ان رسالتها قد وصلت تمامًا إلى لب أعصابه
وأصبح الرجل كتلة من لهب جهنمي .. هنا أرسلت كلماتها
مصحوبة بحشرجة مريضة :
- شتممني فتحي .. لعن جدودي .. ضربني ، كان عايز يسقطني
..وشتم جدود جدودك انت كمان .
وذهل عليوة فقد حدث ما حدث أمامه .. وسبها هو ،
وشتمها هو من أجلي ، بل كاد يضربها ،
وقبل أن ينطق بحرف واحد كانت قد اتهمته هو الآخر
بسبها ومحاولة ضربها .
تحول الوالد إلى نار عارمة لا سبيل إل السيطرة عليها ،
هجم على عليوة وضربه بوحشية
وانطلق إلى غرفتي وعليوة يتشبث به يحاول اعتراضه قائلًا :
- إلا فتحي .. موتني أنا .. قطعني حتت .. والله فتحي ما عمل حاجة .
تخلص من عليوة واندفع إليَّ وأنا نصف حي .. ضربني ضرب
الحمير دون أدنى مقاومة .. سحقني سحقًا دون شفقة .
وانهار عليوة يبكي مر البكاء .
ومات كل شيء بداخلي .
كل شيء قد مات .. تدمر الأعاصير الأشياء بلا انتقاء !