يستحق التحية والإكبار رئيس محكمة جنايات القاهرة ــ المستشار محمود شكرى ــ لأنه أعلن تنحى المحكمة عن نظر قضية التمويل الأجنبى المتهم فيها بعض الأمريكيين الذين منعتهم المحكمة من السفر. وبشجاعة قال فى قرار التنحى إن ما دفعه إلى ذلك أنه تلقى اتصالا هاتفيا من رئيس محكمة الاستئناف دعاه إلى إلغاء القرار الخاص بالأمريكيين. وهو ما اعتبره تدخلا فى صلاحياته ومساسا باستقلاله، رفضه من جانبه.
الخبر الذى نشرته «الشروق» يوم الخميس الماضى (الأول من مارس) يمكن أن يقرأ من أكثر من زاوية. فهو من ناحية يستدعى ملف المنظمات الأهلية والتمويل الأجنبى لها. ومن ناحية ثانية فإنه يسلط الضوء على حجم الضغوط والتدخلات الأمريكية الفجّة فى الشأن المصرى إلى الحد الذى دفع الإدارة الأمريكية إلى إرسال طائرة حربية إلى القاهرة تولت نقل الأمريكيين الممنوعين من السفر، اطمئنانا إلى أن قرار المنع سيلغى بعد الاتفاق مع السلطات المعنية فى مصر. من ناحية ثالثة فإن الواقعة جاءت كاشفة عن أن الإدارة الأمريكية تعتبر أن الذى تغير فى مصر بعد الثورة هو الحاكم فقط وليس الحكم. فالمبعوثون الأمريكيون الذين جاءوا إلى مصر مؤخرا ونصحوها بالسماح للأمريكيين المتهمين بمغادرة البلاد اعتبروا أن نصائحهم «ملزمة»، ولم يخيب المجلس العسكرى ظنهم للأسف الشديد. من ناحية رابعة فإننا يمكن أن نقرأ الحدث باعتباره كاشفا أيضا عن أن أسلوب العمل داخل الجهاز الحكومى وداخل وزارة العدل ذاتها لم يختلف كثيرا عما كان عليه الحال قبل الثورة. إذ لا شك أن رئس محكمة الاستئناف المستشار عبدالمعز إبراهيم لم يتطوع بالاتصال الهاتفى مع رئيس محكمة الجنايات المستشار محمود شكرى، ولكن الأول تلقى «توجيها» بذلك من سلطات أعلى. وهو ما يدعونا إلى التساؤل عن خلفية مثل هذه الاتصالات وما إذا كانت حدثت فى قضايا أخرى أم لا.
ثمة كلام كثير يمكن أن يقال فى كل واحدة من تلك الزوايا، لكننى أفضل التركيز هذه المرة على موقف المستشار محمود شكرى وأمثاله من القضاة الشرفاء الذين يدافعون عن استقلالهم ونزاهتهم فى صمت. فى حين لم يسمع بهم أحد، لم تجذبهم أضواء الفضائيات ولم يركضوا وراء النشر الصحفى، ولم تفتنهم الألقاب المجانية التى حولت كل من انضم إلى أحد الدكاكين السياسية أو أجاد الثرثرة إلى «فقيه دستورى» يفتى فى كل أمور الدنيا.
إن موقف المستشار شكرى الذى لا أشك فى أنه أحرج كل الذين يتربعون على مقاعد السلطة فى الحكومة والمجلس العسكرى، يسلط الضوء على أولئك القضاة الشجعان الذين يؤمنون برسالتهم ويعتزون بمهنتهم ويرفضون أى مساس باستقلالهم هم قماشة أخرى مختلفة عن أولئك الذين تحولوا إلى خدم للسلطان وترزية للقوانين ومزورين للانتخابات، وغيرهم ممن نالوا من الحظوة والثراء ما نالوا، فكسبوا الكثير وخسروا أنفسهم. ولست أشك فى أن أولئك الشرفاء كانوا موجودين طوال الوقت، لكن الرياح كانت تميل لصالح غيرهم. إلا أن ريح الثورة حين هبت فإنها أتاحت لنا أن نرى تلك النماذج التى قبعت طويلا فى الظل.
النموذج الذى قدمه لنا المستشار محمود شكرى، يستدعى إلى الذاكرة نموذجا آخر لنفر من الدبلوماسيين الشرفاء المجهولين (حوالى 300)، الذين أصدروا لأول مرة بيانا شجاعا لم ينل حقه من الاهتمام الإعلامى فى شهر نوفمبر من العام الماضى، وفيه عبروا عن إدانتهم واستهوالهم للعنف الذى مارسه المجلس العسكرى بحق المتظاهرين.
حدث إصدار البيان كان قنبلة سياسية قوبلت بصمت مدو. ولكن ما جرى بعد إصداره لم يكن أقل إثارة. لأن ممثلا لإحدى الجهات الأمنية اتصل بمسئول فى الخارجية وطلب أرقام هواتف الأشخاص الذين أعدوا البيان، فرفض الأخير أن يستجيب له وطلب منه أن يوجه خطابا رسميا بذلك إلى الوزارة. ولم يكتف بذلك. وإنما روى ما وقع على موقعه فى شبكة التواصل الاجتماعى، وكان رد الفعل مدهشا، إذ انهالت عليه رسائل زملائه الذين أعلنوا عن أسمائهم وأرقام هواتفهم فى تحد شجاع للجهاز الأمنى الذى أراد أن يخيفهم.
إن بعض أهل السلطة لا يريدون أن يقتنعوا بأن ثورة حدثت فى مصر، وأن زمن الخوف قد ولى، أما الذين يصرون على أن الثورة انتهت أو سرقت، فإننى أدعوهم إلى خلع النظارة السوداء من على أعينهم. ولست أشك فى أنهم سيغيرون رأيهم إذا طالعوا قرار المستشار محمود شكرى وبيان الدبلوماسيين الشجعان لكى يطمئنوا إلى أن جذوة الثورة لم تنطفئ.