طوال الأسبوع الماضى كانت عناوين الصفحات الأولى للصحف التركية تتحدث عن مفاجأة استدعاء رئيس المخابرات وخمسة من مساعديه، للتحقيق معهم أمام المدعى العام لإحدى محاكم اسطنبول. وكان الدافع إلى الاستدعاء أن المدعى العام (صدر الدين صارى قايا) اعتبرهم مشتبهين فى قضية تخابر مع قيادات سياسية فى حزب العمال الكردستانى، الذى يعتبر «إرهابيا» ومحظورا فى تركيا. المفاجأة كانت مركبة، ذلك أن أحدا لم يتوقع أن يتهم رئيس جهاز المخابرات حقان فيدان وأعوانه بالتخابر مع حزب معاد للحكومة. ثم إنها المرة الأولى التى يوجه فيها اتهام من هذا القبيل لرئيس المخابرات، وأن يستدعى لسماع أقواله فى الموضوع. إلى جانب ذلك فالرجل محسوب على رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، الذى اختاره للمنصب وائتمنه على المهمة.
رفض حقان المثول أمام قاضى التحقيق، معتبرا أنه تجاوز اختصاصاته، وأنه لا يجوز له أن يحقق مع رئيس المخابرات الذى يعد أحد المسئولين عن أمن الدولة، وصلاحياته تسمح له بأن يحاول اختراق المنظمات التى تهدد أمن البلاد. لكن المدعى العام أصر على موقفه ورفض أن يسحب قراره، الأمر الذى وضع الحكومة فى حرج كبير، ولإنقاذ الموقف بصفة مؤقتة تم سحب الملف من قاضى التحقيق بناء على أوامر المدعى العام الأعلى فى أسطنبول. ولكن ذلك لم يوقف الجدل حول الموضوع، لأن أحزاب المعارضة اعتبرت القرار تدخلا من جانب السلطة التنفيذية فى سير القضية وعدوانا من جانبها على القضاء المستقل.
الضجة التى ثارت بدا واضحا منها أن الهدف ليس حقان رئيس المخابرات، ولكنه أيضا رئيس الحكومة أردوغان. وترددت إشارات فى ثنايا التعليقات إلى دور الأصابع الخارجية فى افتعال المشكلة. وسلط الضوء على هذا الجانب المحلل السياسى التركى الدكتور سمير صالحه. الذى نبه إلى الدور الإسرائيلى فى العملية، وكيف أن حكومة تل أبيب تريد الانتقام من أردوغان وحكومته الذين قلبوا سياستها فى المنطقة رأسا على عقب فى السنوات الأخيرة وذكر أن وزير الدفاع الإسرائيلى إيهود باراك انتقد اختيار حقان رئيسا للمخابرات، بزعم أنه مقرب من إيران، وقد يسلم طهران وثائق مهمة حول التعاون الاستخبارى بين تركيا وإسرائيل، مما يهدد أمن الدولة العبرية.
المفاجأة التى كشف عنها الدكتور صالحه أن السبب الحقيقى لمحاولة الإيقاع برئيس المخابرات حقان ومحاولة تلويث صفحته ليس التخابر معه حزب العمال الكردستانى لكنه يكمن فى حملة المطاردة والتنظيف التى أطلقها الرجل ضد عملاء وشبكات الموساد فى تركيا، أدى إلى قطع الطريق على الكثير من العمليات التى كانوا ينفذونها فى المدن التركية الرئيسية لاصطياد المتعاونين والعملاء من كل الجنسيات، مستفيدين من المساحة السياسية والتجارية فى البلد المفتوح للجميع. ليس ذلك فحسب، وإنما عمد حقان إلى تجميد نشاطات وتحركات الموساد الإسرائيلى داخل أكثر من جهاز رسمى وخاص تركى، إضافة إلى أنه يتحمل مسئولية إغلاق أهم محطة رصد واستطلاع وتجسس إسرائيلية فوق الأراضى التركية وتوسيع رقعة العمليات لجهاز الاستخبارات التركى (ام. آى. تى) لتصل إلى أكثر من دولة إقليمية تعارضت الحسابات والمصالح فيها بين أنقرة وتل أبيب (الشرق الأوسط 15/2).
فى اليوم التالى لنشر مقالة الدكتور سمير صالحه نشرت جريدة «الشروق» (عدد 16/2) خلاصة تقرير لمجلة «المصور» التونسية اعتمد على دراسة لمركز يافا للدراسات والأبحاث فى تل أبيب ذكر أن جهاز الموساد الإسرائيلى قام بتنشيط جواسيسه فى المدن التونسية بعد ثورة ١٤ يناير بحيث يتولى فرع تونس العاصمة رصد الأهداف فى الجزائر، ويتولى فرع جزيرة جربة (500 كم جنوب شرق العاصمة) رصد الأهداف فى ليبيا. ويهتم فرع مدينة سوسة (150 كم شرق العاصمة) بالقضايا المحلية التونسية. أضاف التقرير أن الموساد يركز على ثلاثة أهداف هى: بناء شبكات تخريب وتحريض، ومراقبة ما يجرى فى الجزائر وليبيا، إضافة إلى مراقبة ما تبقى من نشاط فلسطينى فى تونس، ومراقبة الحركات الإسلامية السلفية. وذكرت المجلة أن الموساد نجح فى إحداث قلاقل قبل الثورة وبعدها، وذلك بهدف تعطيل أية خطورة لإقامة تحالفات استراتيجية مع أطراف تعتبرها إسرائيل والولايات المتحدة وإسرائيل خارجة عن «بيت الطاعة».
السؤال الذى خطر لى بعد الذى قرأته عن تغلغل الموساد فى تركيا وفى تونس هو: ما الذى يفعله جهاز الموساد فى مصر، الذى لا نشك فى أنه موجود، ولماذا لا يسلط الضوء على الأنشطة التى يمارسها؟.. إحدى الإجابات التى خطرت لى أنهم فى تركيا يملكون إرادتهم المستقلة، وهذا ما حدث فى تونس بعد الثورة، التى رفضت الضغوط الإسرائيلية. لكن الأمر لايزال محل نظر فى مصر. على الأقل فلم تثبت لدينا رؤية ذلك الاستقلال.