من عجيب ما حلَّ بأرض مصر بعد هبَّة يناير الكبرى، ما شاع من أن الانتخابات ستجرى فيها بغير تلاعب أو تزوير. وحين اختبرت المقولة فيما خص مجلس الشعب، فوجىء خلق كثير بأن الادعاء صحيح، إذ على غير المألوف منذ نصف قرن ونيف، فإن المجلس المذكور جاء حقاً ممثلاً للشعب، وهو ما تناقلته الألسن بين مصدق ومكذب.
(١)
رويت قبل عامين قصة حوار جرى بين بعض نواب البرلمان التركى كانوا قد زاروا القاهرة، والتقوا نظراء لهم من أعضاء مجلس الشعب المصرى، وكان بين الأخيرين واحد من المعارضين تطرق أثناء الحوار إلى الجهود التى تبذلها الحكومة لتزوير الانتخابات لإسقاط إناس بذواتهم وإنجاح آخرين. حينذاك لم يستوعب النواب الأتراك القصة، وطلبوا من محدثهم المصرى أن يشرح لهم حكاية التزوير هذه، وكيف تتم عملية التلاعب فى الأصوات، واستغرق الأمر بعض الوقت لإقناع الأتراك بما استغربوا له من أن الحكومة والأجهزة الأمنية هى من يقرر الناجحين والراسبين فى الانتخابات، وأن تشكيل البرلمان يحدده القرار السياسى وليس أصوات الناخبين.
بسبب من ذلك فإن الحرية والنزاهة التى جرت بهما الانتخابات تجعلان منها حدثاًَ كبيراً ونقلة مهمة فى التاريخ المصرى الحديث، إذ إلى جانب كونه يعد أول مؤسسة مدنية ينتجها الشعب بعد الثورة، ومن ثم أول تجسيد للنظام الديمقراطى المنشود وأهم خطوة اتخذت لتسليم السلطة من المجلس العسكرى إلى الحكم المدنى، فإن الحدث له سمات أخرى لها دلالتها هى:
● إن المجلس كله ــ تقريباً ــ خرج من عباءة المعارضة. لا يغير من ذلك ما قيل من أن بضعة عشر شخصاً من فلول النظام السابق انتخبوا فيه، إذ لا قيمة لهذا العدد وسط نحو 500 نائب بالبرلمان، جميعهم من مجموعات سياسية معارضة.
● إنها المرة الأولى فى التاريخ المصرى المعاصر التى يجد فيها الإسلاميون باختلاف مدارسهم أنفسهم يعملون جنباً إلى جنب فى مؤسسة واحدة وتحت سقف واحد مع الليبراليين والعلمانيين باختلاف أطيافهم، ومطلوب من الطرفين أن يشتركا معاً فى حمل مسئولية الرقابة والتشريع وانتخاب لجنة وضع الدستور، والتحدى الذى يواجهه هؤلاء وهؤلاء هو كيف يمكن أن يكتشف كل طرف الآخر، وكيف يتغلبون على سوء الظن المتبادل بينهما، ويبحثان عن مشترك يمكنهما من النهوض بالمسئولية التى اشتركا فى حملها.
● إنها المرة الأولى فى التاريخ المصرى المعاصر أيضاً التى يحصد فيها الإسلاميون أغلبية تجاوزت 70٪ من عضوية المجلس النيابى، الأمر الذى يعد اختباراً لمقولاتهم ومشروعهم، كما يمثل امتحاناً لقدرتهم على فهم الواقع، والتجاوب معه والاستجابة لمتطلباته، وكذلك قدرتهم على التفاعل مع القوى الوطنية الأخرى. ونتيجة هذا الاختيار هى التى ستحدد ما إذا كانوا يشكلون إضافة حقيقية إلى المجتمع أم أنهم عبء عليه. وهل هم أمل يمكن المراهنة عليه أم هم يتعين الخلاص منه.
(2)
لا مجال للحديث عن أداء المجلس، فنحن مازلنا بإزاء لحظات تحرير شهادة الميلاد بعد الاتفاق على اسم المولود والتعرف على جنسه. وغاية ما نستطيعه الآن أن نتفرس فى وجهه ونحاول أن نرصد ملامحه. أعنى أننا لم نمد بصرنا إلى أبعد من تركيب المجلس وتشكيل مجموعات عمله وما تناهى إلينا من حوار بهذا الخصوص بين التيارات المختلفة. فى هذا الصدد نلاحظ ما يلى:
● إن 15 حزباً جرى تمثيلها فى مجلس الشعب، 13 منها تأسست أو أجيزت بعد الثورة، وحزبان فقط ينتميان إلى مرحلة ما قبل 25 يناير، أحدهما حزب الوفد الذى فاز بـ38 مقعداً وهى نسبة لا تتناسب مع تاريخه، وحزب التجمع الذى حصل على ثلاثة مقاعد فقط، رغم مضى 35 سنة على تأسيسه.
● إن تحالف الكتلة المصرية الذى ضم أحزاب المصريين الأحرار والديمقراطى الاجتماعى والتجمع حصل على مليونين و400 ألف صوت، وإذا صح أن الأقباط بتشجيع من الكنيسة صوتوا لصالح الكتلة ولحزب المصرين الأحرار تحديداً، فإن حصولها على تلك النسبة المتواضعة من الأصوات يثير أكثر من تساؤل حول حجم الصوت القبطى ومن ثم حول العدد الحقيقى للأقباط فى مصر، إذ المتواتر أن ما بين مليون ومليون ونصف المليون منهم صوتوا للحزب ، وهو ما يشكك كثيراً فى المبالغات المتداولة عن أعداد الأقباط، ويرجح كفة تقدير أعدادهم بما لا يجاوز ستة ملايين شخص.
● إن الهوية الإسلامية صوت لصالحها أكثر من 18 مليون شخص باتوا يمثلون أكثر من 70٪ من أعضاء مجلس الشعب، رغم أن المنتمين إلى الأحزاب التى عبرت عن تلك الهوية كانوا الأكثر تعرضاً للاضطهاد والقمع فى ظل النظام السابق.
● إن الأحزاب المعبرة عن الهوية الإسلامية ليست بالتماسك الذى يبدو لأول وهلة، ولئن كانت قوية شكلا إلا أننا لا نستطيع القول بأنها قوة تصويتية واحدة. فالإخوان حريصون على أن يحتفظوا بمسافة إزاء السلفيين، من ناحية لكى لا يحملوا بمواقف الآخرين التى لا يوافقون عليها، ومن ناحية ثانية لتجنب احتمال تقسيم البرلمان بين قوى دينية وأخرى مدنية. والسلفيون أنفسهم ليسوا فكراً واحداً، إذ بينهم اتجاه يؤيد المشاركة الديمقراطية ومستعد للتفاعل مع أغلب قيمها، وبينهم اتجاه آخر لا يزال يرفض الديمقراطية ويرى فيها ضلالاً ومدخلاً إلى الكفر. وحزب البناء والتنمية الذى أسسه أعضاء الجماعة الإسلامية وحصل على 15 مقعداً يرى أنه وسط بين الإخوان والسلفيين يسعى لفض الاشتباك بينهما، أما حزب الوسط فهو حريص على أن يحتفظ بمسافة مع الإخوان، ويبدو مشتبكاً معهم فى بعض الأحيان، ويحاول أن يصطف أكثر إلى جانب الأحزاب الليبرالية.
● من الملاحظات الجديرة بالانتباه فى هذا السياق أن الإخوان موجودون فى العمل السياسى منذ عدة عقود، وأن الجماعة الإسلامية التى انتهجت سبل العنف فـى المرحلة الساداتية وشاركت فى اغتياله مارست نقداً ذاتياً لأفكارها فى سلسلة كتب «المراجعات»، ثم انتقلت بعد ذلك إلى العمل السياسى والسلمى من خلال حزب البناء والتنمية. أما السلفيون الذين كان موقفهم التقليدى ناقداً للديمقراطية ورافضاً لها، فإنهم تحولوا فجأة إلى العمل السياسى وإلى المشاركة الديمقراطية دون أن يراجعوا موقفهم الأصلى، فيما هو معلن على الأقل.
(3)
فى ظل هذه الملابسات المعقدة بدا مصطلح «التوافق» وكأنه المفتاح السرى الكفيل بتسيير دفة مجلس الشعب وتوفير فرص النجاح له فى أدائه لمهمته. ورغم أن ذلك مدخل صحيح إلا أنه يحتاج إلى ضبط، ذلك أنه قد يبدو معطلاً ومتعذراً إذا كان يعنى اشتراط إجماع كل الأحزاب الخمسة عشر الممثلة فى المجلس، وقد يكون مدخلاً تلجأ إليه الأحزاب الصغيرة التى لا يتجاوز ممثلوها أصابع اليد الواحدة، لابتزاز القوى الممثلة لأغلبية الشعب واستخدام «الفيتو» ضدها. وقد يكون مقبولاً ومفهوماً أيضاً إذا كان يعنى استمرار التفاهم بين القوى الرئيسية «الحرية والعدالة والنور والوفد والكتلة مثلاً». وقد لا يكون هناك مفر من اللجوء إلى التصويت العام فى بعض الحالات لحسم الاختلاف فى الرؤى والاجتهادات.
فى رأى الدكتور عمرو هاشم ربيع الخبير بمركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام أنه رغم أهمية التوافق فإن التقسيمات النمطية التقليدية لن يكون لها حظ كبير فى مجال عمل المجلس، ففكرة التحالفات لن تكون قائمة بالضرورة، ولا قسمة اليمين واليسار ولا الاصطفاف فى معسكرين دينى ومدنى. إنما ستتغير المواقف بتغير الموضوع المثار، إذ قد يتفق البعض حول موضوع ثم يختلفون فى موضوع اخر، وبشكل عام فإن فرصة التوافق حول ما هو سياسى واقتصادى أو معيشى قد تكون أفضل كثيراً من الاتفاق حول ما هو ثقافى مثلاً، علماً بأن أحداً لا يستطيع أن يتكهن بحجم الخلافات التى يمكن أن تنشأ بين الفرقاء فى مرحلة انتخاب لجنة الدستور أو أثناء إعداد الدستور.
لا مفر مع ذلك من الاعتراف بأن حداثة تجربة اشتراك الجميع فى مجلس الشعب، ومن ثم «اضطرارهم» للعمل معا لم تخل من تأثر بالرواسب القديمة والحساسيات بين القوى السياسية المختلفة. وقد ظهر ذلك أثناء تشكيل لجان المجلس، حيث اعتذر بعض ذوى الخبرة من الأحزاب الأخرى عن رئاسة بعض اللجان لعدم رغبتهم فى التعاون مع الإخوان، رغم أن منهم من تولى بعض مواقع المسئولية فى ظل النظام السابق، وتذرع آخرون بحجة التوافق لفرض شروطهم على الأغلبية.
(4)
فى هذه الأجواء التى أنعشت أملنا فى التقدم على طريق تأسيس النظام الديمقراطى الجديد، واستبشرنا خيرا بإجراء الانتخابات بحرية ونزاهة، فإننا لم نعدم أصواتاً امتعضت لما أسفرت عنه النتائج التى أظهرت فوز الأحزاب الإسلامية بنسبة عالية من الأصوات. نعم عبر بعض ذوى النوايا الطيبة عن أملهم فى أن تطور تلك الأحزاب من أفكارها ومواقفها بحيث تنجح مع الجماعة الوطنية فى تضميد جراح الوطن والأخذ بيده لتجاوز أزمته، إلا أن الممتعضين ما برحوا يعبرون عن حزنهم وتشاؤمهم، فقرأنا تشكيكاً فى قدرة الفائزين على الإنجاز، وتخويفاً من احتمالات التضييق على الحريات العامة والخاصة. كما قرأنا غمزاً فى دور الدين الذى استخدم لجذب الأصوات. قرأنا أيضاً غمزاً من نوع آخر فى وعى الناس وانتشار الأمية بينهم وردوا ذلك فى انحيازهم إلى الأحزاب الإسلامية.. إلخ.
كل هذه الانتقادات على قسوة بعضها مفهومة وليست مفاجئة، إذ يحفل بها الإعلام المصرى منذ عقود، لكن ما كان جديداً وصادماً حقاً هو ما قرأناه فى جريدة «الأهرام» «صباح يوم الثلاثاء الماضى 24/1»، للدكتور مراد وهبة. ذلك أنه استحضر تاريخ الحزب النازى وما فعله باليهود فى ثلاثينيات القرن الماضى، وخلص منه إلى أن المشكلة لم تكن فى هتلر وحملة الإبادة «الهولوكوست» التى حدثت أثناء حكمه لألمانيا، ولكنها كانت أيضاً فى الشعب الألمانى ذاته الذى شاعت فى أوساطه معاداة السامية، وظل مهجوساً بأن الشعب الآرى هو الذى سيقود العالم ويصبح معلم البشرية. إلى هنا والكلام عادى ويمكن اعتباره بمثابة قراءة يمكن الاتفاق أو الاختلاف معها، لكن الدكتور وهبة وظف هذه الخلفية للانقضاض على الإخوان والمطابقة بين كلام مرشدها الدكتور محمد بديع وبين الفلسفة الملهمة لهتلر والحزب النازى. ولو أنه أراد هجاء الإخوان فقط لهان الأمر نسبيا، ولأصبح الرد على الكلام حقا لهم. لكن المشكلة أنه حين اتهم الشعب الألمانى بالنازية، فإنه أسقط نفس المعيار على الشعب المصرى، الأمر الذى فهم منه غمزاً فى عقيدة الشعب المصرى التى دفعته إلى التصويت للإخوان والسلفيين، خصوصاً أنه تساءل عن التماثل بين الحزب النازى والإخوان. وحين فعل ذلك فإن هجاءه للإخوان الذى هو حر فيه تحول إلى ذم ليس فقط للشعب المصرى ولكن إلى تجريح لعقيدته. سواء قصد الرجل ذلك أم لم يقصد، فإن كلامه أثار التباسا واستياء حدثنى عنه كثيرون، وكان له أثره الغاضب فى مقالة كتبها زميلنا الأستاذ أسامة غيث فى جريدة «الأهرام» ذاتها عدد «28/1».
إنه أمر محزن حقاً أن يحلم الجميع بتوافق واحتشاد لتحقيق الأمل فى المستقبل، ثم يفاجئنا أحد الحانقين «بكرسى فى الكلوب» يريد به أن يطفئ البهجة ويشيع الظلام فى السرادق المنصوب.