مقال يستحق أن نقرؤه
بعين العقل وبهدوء دون إنفعال
تلقيت عدة تعليقات على ما كتبته أمس فى هذا المكان حول رسائل الغضبة الثانية. التى تم استخلاصها فى المظاهرات الحاشدة التى خرجت إلى ميادين مصر وشوارعها الرئيسية فى مناسبة مرور سنة على ثورة 25 يناير، لا جديد فى التعليقات التى أيدت ما ذهبت إليه، باستثناء الأصداء التى زايدت على ما قلت، ودعت إلى موقف أكثر خشونة إزاء المجلس العسكرى. إذ دعا أصحاب هذه الآراء إلى ضرورة تخليهم عن السلطة فورا وإلى مساءلة ومحاسبة أعضائه عن الجرائم التى وقعت بحق المتظاهرين. وأدت إلى قتل بعضهم وإصابة المئات بإصابات بالغة وعاهات مستديمة. قدرت بعض هذه الآراء ولم أقتنع بالبعض الآخر. إذ لم أفهم لمن تسلم السلطة فى حين أننا قطعنا نصف الطريق تقريبا لبلوغ ذلك الهدف. كذلك لم أفهم كيف يمكن أن نحاسب أعضاء المجلس العسكرى دون أن نتقصى حقائق ما جرى ونحدد المسئولين عنه.
ما آثار انتباهى هو التعليقات التى تحفظت على ما قلت، خصوصا أننى سمعتها وتلقيت بعضها من شخصيات مرموقة، لها مواقفها النزيهة والمقدرة فى مجال العمل العام.
انصبت تلك التحفظات على نقطتين جوهريتين، قيل لى إن من المهم الانتباه إليها لإنصاف المجلس العسكرى وتقييم موقفه بما يستحقه من موضوعية وتجرد، النقطتان هما:
● إن المجلس لم يقم بانقلاب. بالتالى فإنه لم يسع إلى تولى السلطة فى البلاد ولكنه تدخل لصالح الثورة فى لحظة فارقة، لتجنيب مصر أحد احتمالين: الفوضى العارمة، أو مذبحة تغرق البلاد فى بحر من الدم، ذلك أنه إذا سقط النظام فى حين وقف الجيش محايدا وبعيدا، فإنه فى غيبة تنظيم قائد أو رأس للثائرين، فإن مصر كان يمكن أن تتعرض لحالة من الفوضى تسقط فيها الدولة كلها وليس النظام وحده، أما إذا لم يسقط النظام وأصر المتظاهرون على تحدِّيه، ومن ثم مواصلة الزحف إلى القصر الجمهورى لاقتحامه واحتلاله، فإنهم كانوا سيتعرضون فى هذه الحالة إلى نيران الحرس الجمهورى المدجج بأحدث الأسلحة، الأمر الذى كان من شأنه أن يضاعف فى أعداد القتلى عدة مرات، والله يعلم ما الذى كان يمكن أن يحدث بعد ذلك.
إزاء ذلك ــ يضيف أصحاب هذه الرأى ــ فإن مسئولية تولى السلطة وإدارة البلد ألقيت على المجلس العسكرى، وفرضت عليه فى حين أنه لم يسع إليها.
● حين حدث ذلك فإن القادة العسكريين تعاملوا مع الحدث كمهنيين لا كسياسيين، خصوصا أنهم جميعا ليست لهم أية خلفية سياسية، ناهيك عن أن ذلك كان محظورا طوال عهد الرئيس السابق على كل العسكريين، وفى القوات المسلحة بوجه أخص فإن أى ضابط تظهر عليه أية ميول عسكرية كان يحال إلى التقاعد على الفور، ولم يكن يسمح للضابط بأن يتقلد المراتب العليا، ويتجاوز رتبة عقيد أو عميد إلا إذا كانت التقارير تجمع على أنه ليس له أية ميول سياسية، وأنه لا يعرف فى الدنيا غير وظيفته وولائه للنظام القائم، وهو درس تعلمه الجميع بحيث إن أى ضابط له وجهة نظر فى أى قضية عامة كان يكتمها ويخفيها عن أقرب المقربين إليه. آية ذلك مثلا أننا عرفنا بعد الثورة أن كبار الضباط كانوا ضد توريث السلطة وكانت لهم تحفظاتهم على عدة سياسات (منها بيع القطاع العام مثلا) لكننا لم نسمع أن أحدا جهر برأيه حتى فى محيطه الخاص، وإنما أخفى الجميع مشاعرهم تلك طول الوقت.
أصحاب هذا الرأى يقولون إن تصرف الضباط كمهنيين أوقعهم فى الأخطاء التى حسبت عليهم، سواء ممارسة العنف ضد المتظاهرين أو رفض الاعتذار أو نقد الذات. إلى غير ذلك من الأساليب التى يستطيع السياسى من خلالها أن يصوب أخطاءه ويحتفظ برصيده لدى الناس. ولأن الآلة الإعلامية لا ترحم ــ هكذا قالوا ــ فإنه تم اصطياد الأخطاء والتهويل من شأنها جراء إسقاط الخلفية التى دفعت العسكر إلى ذلك السلوك. وذهب البعض فى نهاية المطاف إلى تصنيف المجلس العسكرى ضمن الثورة المضادة والادعاء بأنهم جزء من النظام السابق وبعض أدواته.
لقد قلت من قبل إن المشهد المصرى بعد سنة من الثورة يمكن أن يقرأ من أكثر من زاوية، وأن كأس الثورة بعضه فارغ ونصفه ملآن، بحيث يتعذر إجراء أى تغيير موضوعى إلا برؤية الكأس بشقيه. وليس من مصلحة أحد أن يرى جانبا دون آخر، ولعل ما ذكرت يسهم فى توفير فرصة أفضل لإجراء ذلك التقييم الموضوعى والمنصف.