وضع القرآن القواعد الأساسية لحقوق النصارى، وقد جاء تطبيق الرسول صلى الله عليه وسلم العملي لها بمنزلة البيان والتوضيح؛ لكي لا يبقى مجال لاجتهادٍ متشدِّدٍ يُسيءُ إلى النصارى.
وقد كان الخلفاء الراشدون -رضي الله عنهم وأرضاهم- من أكثر المسلمين قُربًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لذا كانوا من أكثر الناس تمسُّكًا بحقوق النصارى، وهم الذين واجهوا التطورات الجديدة في الحياة اليومية باجتهاداتٍ جريئةٍ، تصبُّ كُلُّها في مصلحة الذميين.
ويتميَّز عصر الخلفاء الراشدين بأنَّه أفضل فترات التاريخ الإسلامي بعد عصر النبوة؛ حيث تولَّى الحُكم كبار الصحابة المقرَّبون من النبي صلى الله عليه وسلم مِمَّن شَهِدَ لهم بالسابقة والفضل، والبشارة بدخول الجنة، يعاونهم في إدارة البلاد أعدادٌ من الصحابة العدول، والذين مثَّلوا النخبة في مجالات الفكر، والسياسة، والإدارة، والاقتصاد، والقيادة العسكرية.
وقد شهد عصر الراشدين عدَّة متغيِّرات ومستجدَّات لم تكن موجودة في عصر النبوة، ومن هذه المستجدات حركة الفتوح الإسلامية التي بدأها الخليفة الأول أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- في أُخريات حكمه، ثم واصلها الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم مَنْ جاء بعدهما، وترتَّب على ذلك أن حَكَمَ المسلمون أقطارًا عديدة بعد فتحها، منها: الشام، والعراق، ومصر، وغيرها من المناطق؛ ومن ثَمَّ بدأ احتكاك المسلمين بسكان المناطق المفتوحة، ومنهم النصارى[1].
ولقد كان من أُولَيَات الوصايا التي تكَلَّم بها الصِّدِّيق -رضي الله عنه- في أول فترة خلافته هي وصيته إلى الجيش الإسلامي المتَّجه لفتح بلاد الشام، وفي هذه الوصية يُعلن الصديق -رضي الله عنه- أن منهجه الأخلاقي مع غير المسلمين -وإن كانوا محاربين- سيسير على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الصديق رضي الله عنه: "يا أيها الناس، قفوا أوصيكم بعشرٍ فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة، ولا بقرة، ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فَرَّغوا أنفسهم في الصوامع؛ فدعوهم وما فرَّغوا أنفسهم له"[2].
وقد جسَّد ذلك ما ذكره ابن عساكر في سيرة ابن فاتك الذي شهد فتح دمشق، من أنه تولَّى قسمة الأماكن بين أهلها بعد الفتح، فكان يترك الرومي في العُلُوِّ، ويترك المسلم في أسفل؛ لئلاَّ يضُرَّ بالذمي[3].
وها هو عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يمرُّ ذات يوم ببابِ قومٍ وعليه سائل يسأل، شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عَضُدَه من خلفه، وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي. قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟! قال: أسأل الجزية والحاجة والسِّنَّ.
فأخذ عمر -رضي الله عنه- بيده، وذهب به إلى منزله؛ فرضخ له بشيء مما في منزله، ثم أرسل إلى خازن بيت المال، فقال: انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه، أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرَم؛ }إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ{ [التوبة: 60]. والفقراء: هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية، وعن ضُرَبائِه[4].
وعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- هذا هو الذي وصف جوستاف لوبون دخوله القدس، وتسامحه مع النصارى فقال: "ويُثبت لنا سلوك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في مدينة القدس، مقدار الرفق العظيم الذي كان يُعامل به العربُ الفاتحون الأمم المغلوبة -والذي ناقضه ما اقترفه الصليبيون في القدس بعد بضعة قرون مناقضةً تامَّة- فلم يُرِد عمر أن يُدخِل مدينة القدس ومعه غير عددٍ قليلٍ من أصحابه، وطلب من البطريرك صفرونيوس أن يُرافقه في زيارته لجميع الأماكن المقدسة، وأعطى الأهلين الأمان، وقطع لهم عهدًا باحترام كنائسهم وأموالهم، وبتحريم العبادة على المسلمين في بِيَعِهِم".
ثم يستطرد قائلاً: "ولم يكن سلوك عمرو بن العاص بمصر أقل رفقًا من ذلك؛ فقد عرض على المصريين حرية دينية تامَّة، وعدلاً مطلقًا، واحترامًا للأموال، وجزية سنوية ثابتة لا تزيد عن خمسة عشر فرنكًا عن كل رأس، بدلاً من ضرائب قياصرة الروم الباهظة؛ فرضي المصريون طائعين شاكرين بهذه الشروط"[5].
والواقع أن مصر عاشت قبل ذلك فترة حالكة السواد على يد المستعمرين البيزنطيين، والذين اعتبروا مصر البقرة الحلوب التي تُدِرُّ خيراتها إلى خزانة الدولة البيزنطية، وعانى سكانها المشقَّة والعنت في شتى مجالات الحياة.
ومما عاناه المصريون الخلافُ الحادُّ بين الكنيسة المصرية والكنيسة البيزنطية، واتخاذ المقوقس حاكم مصر كل الوسائل لصرف المصريين عن عقيدتهم، وقاسى المصريون جميع أنواع الشدائد؛ حتى تحوَّل كثير ممن لم يستطيعوا الهرب إلى المذهب البيزنطي، ومنهم بعض الأساقفة، وصمد كثيرون، ومن بينهم الأب مينا أخو البطرك بنيامين، أما البطرك بنيامين فقد هرب من بطش المقوقس، وظلَّ هاربًا حتى مجيء الفتح الإسلامي لمصر على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه، وما إِنْ علم عمرو -رضي الله عنه- بقصته حتى أصدر له أمانًا، ونعم بالحرية والطمأنينة في ظلِّ الحكم الإسلامي هو وقومه من القبط[6].
وقد جاء العهد الذي أبرمه عمرو بن العاص -رضي الله عنه- مع أهل مصر، خير شاهد على حرص المسلمين على توفير كل سبل الحياة الكريمة للأقباط؛ فهم أحرار في عقيدتهم، وفي شعائرهم، وسائر شئون حياتهم.. وهذا هو نصُّ العهد:
"هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم ومِلَّتِهم، وأموالِهِم، وكنائِسِهم، وصُلُبهم، وبَرِّهِم، وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك، ولا يُنتَقَص، ولا يساكنهم النُّوب (أي أهل النوبة)..."[7].
كما يشهد الواقع أن المسلمين عندما وطَّدوا أقدامهم في مصر أبقوا النظام الإداري كما كان عليه قبل الفتح الإسلامي، وأشركوا نصارى مصر في إدارة البلاد، في حين حُرِّمَ عليهم المشاركة في إدارة البلاد في العهود التي سبقت الفتح الإسلامي[8].
ويُروَى أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وَجد درعه عند رجل نصراني، فأقبل به إلى شريح القاضي يخاصمه، فقال: هذه الدرع درعي، ولم أَبِعْ، ولم أَهَبْ. فقال شريح للنصراني: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب. فالتفت شريح إلى عليٍّ فقال: يا أمير المؤمنين، هل من بيِّنة؟ فضحك عليٌّ وقال: أصاب شريح؛ ما لي بينة. فقضى بها شريح للنصراني، فأخذها النصراني ومشى خُطًا، ثم رجع فقال: أما أنا فأشهد أنَّ هذه أحكام الأنبياء؛ أمير المؤمنين يُدنيني إلى قاضيه يقضي عليه! أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.. الدرعُ -واللهِ- درعُك يا أمير المؤمنين؛ اتَّبعتُ الجيش وأنت منطلق إلى صِفِّين، فَخَرَجَتْ من بعيرك الأورق. فقال عليٌّ: أَمَا إذ أسلمت فهي لك[9].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] حسن علي حسن: أهل الذمة في المجتمع الإسلامي ص73.
[2] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/246.
[3] ابن عساكر: تاريخ دمشق 20/128.
[4] رواه أبو يوسف: الخراج ص136، وابن زنجويه: الأموال 1/162، 163.
[5] جوستاف لوبون: حضارة العرب ص135.
[6] المقريزي: المواعظ والاعتبار 3/272، بتصرف.
[7] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/514، وابن كثير: البداية والنهاية 7/107.
[8] حسن علي حسن: أهل الذمة ص129.
[9] ابن كثير: البداية والنهاية 8/5.