لم يكن وزير الداخلية الجديد مضطرا لأن ينزل بنفسه إلى واحد من أكبر ميادين القاهرة لكى يقنعنا بأن الشرطة استعادت دورها وأن عهد الانفلات الأمنى قد ولى. بل أزعم أن ذلك النزول يمكن أن يقلقنا بأكثر مما يطمئننا. إذ لدينا خبرة طويلة مع المسئولين الذين لم تتجاوز إنجازاتهم أخبار الصحف وشاشات التليفزيون. وأخشى أن يقتنع الوزير بأنه وجه إلينا الرسالة، وأدى ما عليه لمجرد أنه نزل إلى الميدان الكبير ولاحقته عدسات المصورين الصحفيين والتليفزيونيين. ومن ثم سار على درب من سبقوه من المسئولين والناشطين الذين اعتبروا أن ظهورهم على الشاشات يحقق الإنجاز ويبرئ ذمتهم. والصحف اليومية حافلة بأمثال تلك الصور التى شبعنا منها ومللنا رؤيتها. حتى أصبح نشر تلك الصور مدعاة للشك وقرينة على عدم الجدية.
إلى جانب ذلك فإن موضوع الأمن بالذات أكبر من أن يعالج بصور جولات وزير الداخلية، لأن الأمر ربما أحتمل التصديق إذا كان «المتجول» هو وزير الصناعة أو التربية والتعليم أو الصحة، لأن تقييم أمثال تلك الزيارات يحتاج إلى وقت طويل لإثبات جدواها. أما وزير الداخلية فوضعه مختلف تماما، لأن الأمن إحساس وشعور إذا لم يحصله المرء ويطمئن إليه، فلا قيمة لأى جهد إعلامى يبذل لإقناع المواطن بوجوده.
إن الناس لا تريد أن ترى وزير الداخلية فى الشارع، لكنها تريد أن تشعر بالاطمئنان وهى تسير فى الشارع. ولا بأس من أن ينتشر كبار رجال الشرطة وضباط المرور فى القاهرة، حيث تتواجد الحكومة والسفارات الأجنبية والقنوات التليفزيونية والمراسلون الأجانب، لكن الأهم أن يتحقق ذلك الوجود الشرطى فى ربوع مصر وأريافها، التى استباحها البلطجية والهاربون من السجون، وعاثوا فيها ابتزازا وترويعا وإفسادا.
لا أريد أن يقال إن الشرطة إذا غابت انتقدت وإذا حضرت انتقدت، لأننى أشدد على ثلاثة أمور. أولها أن غياب الأمن بعد الثورة كان كارثيا وأن مستقبل الاقتصاد فى البلد بات مرتهنا لعودة الأمن. ثانيها أننا نريدها عودة حقيقية لا إعلامية أو تليفزيونية، بمعنى أن يستشعرها الناس ولا يقرأون عنها أو يشاهدونها فى الصور فقط. ثالثها إننا نتمنى أن تقترن العودة بإعلان المصالحة بين الشرطة والمجتمع، التى تقوم الاحترام والثقة المتبادلين.
لقد تمنيت أن يبقى الوزير فى مكتبه، وأن يقضى عدة أيام يبحث خلالها مع مساعديه وخبراء الوزارة ملف الزمن من مختلف جوانبه، على أن تكون أمامهم خريطة تبين مؤشرات الحالة الأمنية فى أنحاء مصر، وأتمنى أن ينتهى ذلك الحوار بخلاصات ترسم «خريطة الطريق» لطمأنة المواطنين وأصحاب المصانع والمستثمرين، على أن تحدد لهذه الخطة مدة زمنية معلنة، ومراحل يتم خلالها الانتشار الآمن والقضاء على ظاهرة البلطجة وعصابات قطاع الطرق. وإذا رأينا فى نهاية المطاف علامة الاطمئنان والرضا على وجوه المواطنين فإن حفاوة المجتمع بهذه الصورة ستكون إضعاف ترحيبها بصور الوزير، وهو فى ميدان رمسيس، محاطا بالأعوان والأضواء.
استطرادا فإننى لا أخفى شعورا بالدهشة إزاء الوزراء الجدد الذين ما أن يتسلم الواحد منهم منصبه ويحلف اليمين حتى يبدأ فى إطلاق التصريحات حول الإصلاحات التى ينوى الإقدام عليها، هكذا قبل أن يدرس ملفاتها ويطلع على تقدير الموقف فى المرفق الذى سيتحمل مسئوليته. حتى ذكرنى سلوك أولئك الوزراء بالبدلاء فى مباريات كرة القدم، الذين ما أن ينزل الواحد منهم إلى أرض الملعب حتى يحتل موقعه بسرعة ويركض مع الراكضين من أعضاء فريقه. علما بأنه حتى هؤلاء البدلاء فإن الواحد منهم يعمد إلى «تسخين» نفسه قبل النزول إلى الملعب، فى حين أن وزراءنا الجدد يقفزون إلى دائرة الضوء بسرعة دون أى تسخين.
بوجه أخص فإن الظهور على شاشات التليفزيون على إيجابياته التى لا تنكر، قد يتحول إلى مصدر للفتنة التى تتوزع على المتحدثين والمتلقين. فالمتحدثون كثيرا ما يستعيضون بلك الظهور «الفضائى» عن أى جهد آخر يمثل فعلا على الأرض. والمتلقون كثيرا ما تبهرهم الصور الملونة وتقنيات الإخراج فيحلِّقون مع المتحدث. ويعتبرون أن البث هو الحقيقة. وحتى لا نظلم التليفزيون فينبغى أن نعترف أيضا بأنه سلاح بحدين، بمعنى أنه يمكن أن يكشف المسئول ويفضحه، وقد تابعنا فى مصر شيئا من ذلك القبيل. كما أنه قد يسهم فى خداع الناس وتشويه إدراكهم، ولنا فى مصر أيضا خبرات لا تنسى فى هذا الصدد.
إننا نريد للوزراء أن تدلنا عليهم أعمالهم وبصماتهم فى مجالاتهم، أما صورهم فيفضل أن تحفظ فى «ألبوم» أسرة كل واحد منهم. وسيكون احتراما لهم أكبر لو أنهم تركوا أفعالهم تتحدث عنهم، وقللوا فى الجولات التليفزيونية الميدانية، لأن هناك مسئولين آخرين فى مختلف المواقع يجب أن يقوموا بأعمالهم وأجهزة للمتابعة والرقابة يجب أن تنهض بما أسند إليها. ثم إن الوزير لا يستطيع أن يكون مديرا للفريق ولاعبا فى نفس الوقت.