قصيدة إلهي لا تعذبني
لأبى العتاهية
إِلَهي لا تُعَذِّبني فَإِنّي مُقِرٌّ بِالَّذي قَد كانَ مِنّي
وَما لي حيلَةٌ إِلا رَجائي وَعَفوُكَ إِن عَفَوتَ وَحُسنُ ظَنّي
فَكَم مِن زِلَّةٍ لي في البَرايا وَأَنتَ عَلَيَّ ذو فَضلٍ وَمَنِّ
إِذا فَكَّرتُ في نَدَمي عَلَيها عَضَضتُ أَنامِلي وَقَرَعتُ سِنّي
يَظُنُّ الناسُ بي خَيراً وَإِنّي لَشَرُّ الناس إِن لَم تَعفُ عَنّي
أُجَنُّ بِزَهرَةِ الدُنيا جُنوناً وَأُفني العُمرَ فيها بِالتَمَنّي
وَبَينَ يَدَيَّ مُحتَبَسٌ طَويلٌ كَأَنّي قَد دُعيتُ لَهُ كَأَنّي
وَلَو أَنّي صَدَقتُ الزُهدَ فيها قَلَبتُ لاهلِها ظَهرَ المِجَنِّ
أبو العَتاهِيَة..شاعر يقع بين المجون والزهد
إسماعيل بن القاسم بن سويد العيني، العنزي، أبو إسحاق ويعرف بأبي العتاهية، أحد شعراء العصر العباسي، قيل عنه أنه شاعر مكثر، سريع الخاطر، في شعره إبداع، يعد من مقدمي المولدين، من طبقة بشار وأبي نواس وأمثالهما، كان يجيد القول في الزهد والمديح وأكثر أنواع الشعر في عصره، قال عن نفسه "لو شئت أن أجعل كلامي كله شعراً لفعلت".
حياته
ولد أبو العتاهية عام 130هـ - 747م بعين التمر وهي إحدى القرى الواقعة قرب الأنبار غربي الكوفة وبها نشأ، وسكن بغداد، عندما ضاق الحال بوالده أنتقل بعائلته إلى الكوفة، والتي عرفت في ذلك الوقت كملتقى للعلماء والمحدثين والعباد والزهاد، ومع الرخاء الذي عم المدينة انتشر بها عدد من الجماعات الماجنة والذين يقولون الشعر متنقلين بين مجالس اللهو، ويشتهروا بالزندقة والتهتك.
وفي وسط ذلك نشأ أبو العتاهية فكان يختلف تارة إلى مجالس العلماء والعباد، وتارة أخرى إلى مجالس الشعراء الماجنة، ونظراً لفقره عمل مع والده في بيع الفخار بالكوفة.
ظهرت موهبته في نظم الشعر مبكراً واشتهر بهذا وسمع به المتأدبون من الفتيان فكانوا يتوافدون عليه لسماع شعره.
بين المجون والزهد
كانت حياة شاعرنا مضطربة فكان يخالط أهل المجون واللهو واكثر الشعراء فسوقاً، وظل كذلك لفترة من حياته حتى أطلق عليه لقب "مخنث أهل بغداد"، وعلى الرغم من حياة اللهو هذه إلا أنه أنصرف بعد ذلك إلى الزهد، فكثر شعره في الزهد ووصف الموت وأحواله، والمواعظ والحكم.
يـــا مَـــن يُــسَـرُّ بِـنَـفسِهِ وَشَـبـابِهِ أَنّى سُرِرتَ وَأَنتَ في خُلَسِ الرَدى أَهـــلَ الـقُـبـورِ لا تَــواصُـلَ iiبَـيـنَكُم مَـن مـاتَ أَصـبَحَ هَبلُهُ رَثَّ iiالقُوى يــا مَــن أَقـامَ وَقَـد مَـضى إِخـوانُهُ مــا أَنــتَ إِلّا واحِــدٌ مِـمَّـن مَـضـى أَنَـسيتَ أَن تُـدعى وَأَنـتَ مُـحَشرِج مـا إِن تَـفيقُ وَلا تُـجيبُ لِـمَن iiدَعـا أَمّــا خُـطاكَ إِلـى الـعَمى iiفَـسَريعَةٌ وَإِلى الهُدى فَأَراكَ مُنقَبِضَ iiالخُطا
|
وقال أيضاً
أَمــا مِـنَ الـمَوتِ لِـحَيٍّ iiنَـجا كُــلُّ امــرِئٍ آتٍ عَـلَيهِ iiالـفَنا تَــبــارَكَ الــلَــهُ iiوَسُـبـحـانَـهُ لِــكُـلِّ شَــيءٍ مُــدَّةٌ وَانـقِـضا يُـقَـدِّرُ الإِنـسـانُ فــي نَـفـسِهِ أَمــراً وَيَـأبـاهُ عَـلَـيهِ الـقَضا وَيُرزَقُ الإِنسانُ مِن حَيثُ لا يَـرجو وَأَحـياناً يُـضِلُّ iiالـرَجا الـيَأسُ يَحمي لِلفَتى iiعِرضَهُ وَالـطَـمَعُ الـكـاذِبُ داءٌ iiعَـيـا مـــا أَزيَــنَ الـحِـلمَ iiلِأَربـابِـهِ وَغـايَـةُ الـحِـلمِ تَـمامُ iiالـتُقى
|
اتصاله بالخلفاء
انتقل أبو العتاهية إلى بغداد أثناء خلافة المهدي، وكانت مركزاً للنشاط العلمي والأدبي بالإضافة لكونها دار الخلافة، فكانت المكان المناسب للشاعر لينشر بها أشعاره، أتصل بالخليفة المهدي الذي استدعاه للقصر ولما سمع شعره أعجب به ونال رضاه.
مما قاله في مدح الخليفة المهدي يوم توليه الخلافة:
أَتَــتــهُ الـخِـلافَـةُ iiمُـنـقـادَةً إِلَـــيــهِ تُــجَــرِّرُ iiأَذيــالَـهـا وَلَـــم تَــكُ تَـصـلُحُ إِلّا لَــهُ وَلَــم يَــكُ يَـصـلُحُ إِلّا iiلَـها وَلَــو رامَـهـا أَحَــدٌ غَـيـرُهُ لَـزُلزِلَتِ الأَرضُ iiزِلـزالَها وَلَو لَم تُطِعهُ بَناتُ القُلوبِ لَـمـا قَـبِـلَ الـلَـهُ أَعـمـالَها وَإِنَّ الخَليفَةَ مِن بَعضِ iiلا إِلَـيـهِ لَـيُـبغِضُ مَـن iiقـالَها
|
وعندما جاءت فترة حكم الرشيد كان أبو العتاهية قد أعرض عن قول الشعر، فطلب منه الرشيد أن يعود إليه فأبى فحبسه في منزل حتى عاد إليه مرة أخرى، ولزم بعد ذلك الرشيد ومن بعده الأمين ثم المأمون. "عتبة"أعجب أبو العتاهية بجارية لزوجة المهدي وتدعى "عتبة" وكان قد أبصرها ذات يوم راكبة مع جمع من الخدم تتصرف في حوائج الخلافة، فتعلق بها قلبه وذكرها في شعره، ولما علم أمير المؤمنين هم أن يدفع بها إليه، ولكنها قالت " يا أمير المؤمنين مع حرمتي وخدمتي تدفعني إلى بائع جرار متكسب بالشعر؟"، فبعث إليه قائلاً" أما عتبة فلا سبيل لك إليها وقد أمرنا لك بملء برنية مالاً". قال في عتبة:يـا إِخـوَتي إِنَّ الهَوى iiقاتِلي فَـيَسِّروا الأَكـفانَ مِن عاجِلِ وَلا تَلوموا في أتِّباعِ الهَوى فَـإِنَّـنـي فـــي شُـغُـلٍ شـاغِـلِ عَـيـني عَـلـى عُـتـبَةَ iiمُـنهَلَّةٌ بِـدَمـعِها الـمُـنسَكِبِ iiالـسائِلِ يـا مَـن رَأى قَبلي قَتيلاً iiبَكى مِـن شِدَّةِ الوَجدِ عَلى iiالقاتِلِ بَـسَطتُ كَـفّي نَـحوَكُم iiسـائِلاً مــاذا تَـرُدّونَ عَـلى iiالـسائِلِ
|
وظل أبا العتاهية متغزلاً في عتبة ينظم فيها الكثير من الأشعار، حتى أمر المهدي بجلده وإدخاله للسجن، إلى أن تشفع فيه خاله وأخرجه. وعلى الرغم من ذلك ظل حب عتبة مشتعلاً بقلبه حتى جاءت خلافة الرشيد، والذي حاول بدوره التوسط من أجل زواج أبو العتاهية من عتبة ولكن لم يفلح الأمر أيضاً، وأصاب أبو العتاهية اليأس ومما قاله في ذلك: قَــطَّـعـتُ مِــنــكَ حَـبـائِـلَ الآمـــالِ وَحَطَطتُ عَن ظَهرِ المَطِيِّ رِحالي وَيَـئِستُ أَن أَبـقى لِـشَيءٍ نِلتُ مِم مــا فـيـكِ يــا دُنـيا وَأَن يَـبقى iiلـي وَوَجَـدتُ بَردَ اليَأسِ بَينَ iiجَوانِحي وَأَرَحـتُ مِـن حَـلّي وَمِـن iiتَرحالي
|
"أبو العتاهية"يقال في سبب تسمية "أبو العتاهية" بهذا اللقب أن الخليفة المهدي قال له يوماً " أنت رجل متحذلق – أي متطرف، متعته – فغلب عليه هذا اللقب، ويقول ابن منظور " لأن المهدي قال له أراك متخلطاً متعتهاً وكان قد نعته بجارية المهدي "عتبة" واعتقل بسببها وعرض عليها المهدي أن يزوجها له فأبت - كما سبق ان ذكرنا -، وقيل لقب بذلك لأنه كان طويلاً مضطرباً، وقيل أيضاً لأنه يرمي بالزندقة ولأنه كان محباً للمجون والتعته".وكلمة عتاهية لها أكثر من معنى ففي لسان العرب يقول ابن منظور: عته في العلم: أولع به وحرص عليه، والعتاهة والعتاهية مصدر عته مثل الرفاهة والرفاهية، والعتاهية: ضلال الناس من التجنن والدهش والتعته المبالغ في الملبس والمأكل ورجل عتاهية أي أحمق. قال عنه أبو العلاء المعريالـلَـهُ يَـنـقُلُ مَــن شــاءَ رُتـبَةً بَـعدَ رُتـبَه أَبدى العَتاهِيُّ نُسكاً وَتابَ مِن ذِكرِ عُتبَه |
شعرهقدم أبو العتاهية في شعره الزهد والموعظة والرثاء والهجاء والمدح والوصف والحكم والأمثال والغزل، تميز شعره بسهولة الألفاظ وقلة التكلف. ويقال عن سبب اتجاهه للزهد وتوقفه عن قول الغزل والهجاء والمديح، واقتصار شعره على الزهد والحكمة، ما روي عن أبي سلمة الغنوي الذي سأل أبا العتاهية: "ما الذي صرفك عن قول الغزل إلى قول الزهد؟". فأجابه:"إذن والله أخبرك. إني لما قلت: الـلَـهُ بَـيـني وَبَـيـنَ iiمَـولاتي أَبـدَت لِـيَ الـصَدَّ iiوَالمَلالاتِ لا تَغفِرُ الذَنبَ إِن أَسَأتُ وَلا تَـقـبَلُ عُــذري وَلا iiمُـؤاتاتي مَـنَحتُها مُـهجَتي iiوَخالِصَتي فَـكـانَ هِـجـرانُها iiمُـكـافاتي هَـيَّـمَـني حُـبُّـهـا وَصَـيَّـرَنـي أُحـدوثَةً فـي جَـميعِ جاراتي |
رأيت في المنام في تلك الليلة كأن آتيا أتاني فقال: "ما أصبت أحدا تدخله بينك وبين عتبة يحكم علينا بالمعصية إلا الله تعالى؟"، فانتبهت مذعورا وتبت إلى الله تعالى من ساعتي من قول الغزل". زهدهتضاربت الأقوال في زهده فكان البعض يراه زاهداً صادقاً، بينما يراه البعض الأخر راغباً في الدنيا، وان زهده ما هو إلا مواعظ أدبية وتأملات ذات صفة شعرية في الحياة والموت.مما قاله في الزهد:إِلَـــهـــي لا تُــعَــذِّبـنـي فَـــإِنّـــي مُــقِـرٌّ بِــالَّـذي قَـــد كــانَ iiمِـنّـي وَمـــا لـــي حـيـلَـةٌ إِلّا iiرَجــائـي وَعَفوُكَ إِن عَفَوتَ وَحُسنُ ظَنّي فَـكَـم مِـن زِلَّـةٍ لـي فـي iiالـبَرايا وَأَنـــتَ عَــلَـيَّ ذو فَـضـلٍ وَمَــنِّ إِذا فَــكَّـرتُ فــي نَـدَمـي iiعَـلَـيها عَـضَضتُ أَنامِلي وَقَرَعتُ iiسِنّي يَـظُـنُّ الـنـاسُ بــي خَـيراً iiوَإِنّـي لَـشَرُّ الـناسِ إِن لَـم تَـعفُ iiعَنّي
|
قالوا عنه قال عنه أبو الفرج "قال الشعر فبرع به وتقدم"، وقال عنه الأصمعي " شعر أبي العتاهية كساحة الملوك يقع فيها الجوهر والذهب، والتراب والخزف والنوى"، كما قيل عنه: "أنه أقدر الناس على وزن الكلام حتى أنه يتكلم بالشعر في جميع حالاته".وقال عنه المبرد: كان أبو العتاهية حسن الشعر قريب المآخذ لشعره ديباجة ويخرج القول منه كمخرج النفس قوة وسهولة واقتدار. الوفاةتوفي أبو العتاهية في خلافة المأمون بعد أن بلغ الثمانين من عمره عام 211هـ - 826م، وله ديوان شعر.